السبت 6 فبراير 2016 / 18:51

جدار برلين وأولاده

في نهاية الحرب العالمية الثانية، جرى اقتسام العالم بين المنتصرين، وقسمت عاصمة اله الحرب اودولف هتلر إلى أربعة أقسام، ولتكريس القسمة بني جدار برلين الشهير، وانقسم البشر حوله بين محب وكاره، المحبون الذين بنوه اعتبروه سداً منيعاً في وجه البدع الامبريالية المتفشية بالجزء الغربي من البلاد، أما الذين كرهوه وغُلبوا على أمرهم حين تم بناؤه، فقد اعتبروه شوكة في حلق دولتهم الواحدة وشعبهم الواحد ومعوقاً مخيفاً لوتيرة نمو الدولة الحضارية والطليعية في الصناعة... ألمانيا.

وحين دار الزمن دورته وانهارت التجربة الشيوعية في عقر دارها "أوروبا"، جرى هدم الجدار الشهير على أيدي المواطنين الألمان الذين استخدموا المعاول والأزاميل والأرجل والقبضات، وفي سويعات قليلة صار الجدار نسياً منسياً، ونشأ إبداع فني وبلاغي أسهب في وصف العالم في مرحلة ما بعد سقوط الجدار، وتبارى زعماء العالم على الوقوف فوق ركامه والقاء خطب التبشير بمستقبل زاهر للبشرية بعد التخلص من الجدار وكل ما ينطوي عليه من معانٍ وموبقات.

لم يخطر ببال المحتفلين بسقوطه أن الجدران مثل الكائنات الحية تتلاقح وتحمل وتلد، وهذا ما حدث فعلاً بعد سنوات قليلة، ففي إسرائيل استعاروا الفكرة وطبقوها على طول مئات الكيلو مترات، ولقد نشأ هذه الأيام حزب سياسي لإقامة جدار آخر لعزل ثمان وعشرين قرية فلسطينية عن مدينة القدس، وإذا ما أصغينا للمطالبات المتوالدة في إسرائيل، فإن كل مستوطنة ستطلب جداراً وكل مدينة يقطنها فلسطينيون ستطلب ربما أكثر من جدار للفصل بين السكان، ولأن الفلسطينيين لا يستطيعون بناء جدران كهذه، فإن جزءاً منهم ابتدع جدراناً أفعل وأخطر يجري بناؤها تحت الأرض، وإذا ما جمعنا عدد الأنفاق التي بنيت والتي هدمت والتي تبنى وستبنى، فإن الحصيلة مئات الكيلومترات تحت الأرض.

ولأن الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية هي الأطول عمراً بين كل الجبهات في العالم فقد تم استنساخ تجاربها في العراق مثلاً، حيث يبنى حول بغداد سور عملاق على أمل أن يمنع الداعشيين من التسرب إلى المدينة، مما سيؤدي حتماً إلى نشوء ظاهرة الأنفاق هناك فبغداد ليست بعيدة عن المتربصين بها.

وفي زمن الربيع العربي انتقلت الفكرة إلى أوروبا فهناك تتأهب حكومات وبرلمانات لاستنساخ الفكرة لمنع المهاجرين العرب من التدفق إلى بلدانهم وتفادي انتشار ثقافة التحرش التي حمّل الداعشيون وأمثالهم مسؤوليتها على قلة الاحتشام الأوربي في اللباس.

ولنا أن نتخيل كم جداراً سيقام بعد أن يكتمل تدمير سوريا واليمن وربما ليبيا وعلى نحو ما العراق، للفصل بين الاثنيات والطوائف التي ظل بعض أبنائها على قيد الحياة، وهذه الجدر هي أبناء وأحفاد جدار برلين المباد، وهذا ما يثبت واقعية ظاهرة تلاقح الجدران وتوالدها وينبغي أن لا يستغربن أحد حين نطلق على القرن الحادي والعشرين لقب قرن الحديد والاسمنت لتفادي كوارث النزاعات التي عجزت الحروب والتسويات عن حلها.