الأحد 7 فبراير 2016 / 18:55

صورة قاتمة للعالم!

إذا صدقنا كلام جورج فريدمان، فإن نصيب العالم من السلام والاستقرار في القرن الحالي ليس كبيراً، حتى أواسط القرن على الأقل. وإذا كان من الممكن توقع سيناريوهات مختلفة لتلك التي رسمها لمستقبل العالم في كتابه "المائة عام المُقبلة: توقعات للقرن الحادي والعشرين"، فإن ما لا يمكن تجاهله يتمثل في حقيقة أن كل قراءة لحاضر ومستقبل العالم لا يمكن أن تكتمل دون الاعتراف بمركزية الجغرافيا السياسية في رسم وتفسير السياسات الداخلية والخارجية للدول.

وهذا ما يعتمده فريدمان، الذي أنشأ مؤسسة للتحليل الاستراتيجي في الولايات المتحدة باسم ستراتفور، ونشر العديد من الدراسات حول حاضر ومستقبل مناطق مختلفة في العالم على مدار العقود الثلاثة الماضية، ويحظى بمكانة مرموقة في أوساط مؤسسات البحث، وصنّاع السياسة في الولايات المتحدة، إلى حد أن البعض يصف مؤسسته بوكالة الاستخبارات المركزية في الظل.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بالكتاب المذكور، فإن الفرضية الرئيسة لفريدمان تتمثل في نفي أن تكون الولايات المتحدة في حالة تراجع بالمعنى الاستراتيجي، ويعتبر أن القرن الحالي سيكون أمريكياً، كما كان الحال في القرن الماضي. فأمريكا تعيد ترتيب أولوياتها في مناطق مختلفة، ولكنها تسيطر عسكرياً، في الواقع، على البحار والمحيطات، وعلى طرق التجارة الدولية، ومن المُستبعد أن تتمكن قوّة بديلة من منافسة الأميركيين في هذا الصدد.

وفي هذه السيطرة، كما يرى، يتجلى مكوّن رئيس في استراتيجية الولايات المتحدة، التي حالت، دائما، دون نشوء قوى منافسة، وتمثلت سياستها في زعزعة الاستقرار في مناطق مختلفة من العالم للحيلولة دون نشوء تكتلات تهدد احتكارها لطرق التجارة الدولية.

لذلك، ليس صحيحاً، والكلام لفريدمان، أن الولايات المتحدة كانت معنية بالاستقرار في الشرق الأوسط، مثلاً، الذي يخشى الأمريكيون أن تنشأ فيه قوّة إقليمية كبرى تتمكن من حشد طاقات الإقليم (الشعوب العربية والإسلامية) بما يهدد مصالحهم.

وربما على خلفية كلام كهذا يمكن أن نفهم سلسلة الحروب السابقة، والراهنة، في الشرق الأوسط، ودور إسرائيل، واستعصاء حل الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي على مدار عقود طويلة. وفي السياق نفسه يمكن فهم سلسلة الحروب الأهلية، والصراعات الطائفية، التي تجتاح المنطقة في الوقت الحاضر.

هذا لا يعني أن الأميركيين وراء كل ظاهرة، بالضرورة، ولكنه لا يعني، أيضاً، أنهم لا يحاولون الاستفادة من خصوصيات وأزمات محلية. والأهم من هذا وذاك: لا يعنيهم كثيراً مصير شعوب ودول ومجتمعات طالما أن ما حل، أو يمكن أن يحل بها، من كوراث يخدم، في نهاية الأمر، مصلحة أمريكية.

وبقدر ما يتعلّق لأمر بالخارطة الاستراتيجية للشرق الأوسط، في الوقت الحالي، يرى فريدمان أن ثلاث دول يمكنها ممارسة، والتنافس على، دور القوّة الإقليمية: تركيا وإيران ومصر. ويستبعد أن تتمكن مصر، أو إيران، لأسباب اقتصادية في حالة مصر، وجغرافية في حالة إيران، من ممارسة هذا الدور، بينما تملك تركيا، في محاولة تجديد الإرث العثماني مؤهلات قد تكون مفيدة إذا أحسنت استخدامها، بحكم عضويتها في حلف الناتو، وقوتها الاقتصادية، وسياستها غير المعادية للغرب وعلاقتها بإسرائيل، والنموذج الإسلامي الخاص الذي يمكن تسويقه في المنطقة.
بمعنى آخر، لا يجد الأميركيون غضاضة في تمكين تركيا الأردوغانية من ممارسة دور الشرطي في المنطقة، ولكن في ظل عضويتها في الناتو، وسياستها غير المعادية للغرب وإسرائيل. ولعل في هذا ما يفسر تحالفها مع جماعة الإخوان المسلمين، والسعار الذي أصاب الساسة الأتراك بعد الإطاحة بنظام الإخوان في مصر. فالإطاحة بالنظام أربكت مشروع الهيمنة، وخلقت عقبة جدية وجديدة.

ومع ذلك، ينبغي القول إن الشرق الأوسط لا يمثل، في خارطة فريدمان الاستراتيجية، أكثر من نقطة ساخنة مقارنة بخطوط تماس ونقاط كثيرة في أوروبا على نحو خاص، وفي جنوب شرقي آسيا، وفي أمريكا الشمالية نفسها. وفي الكتاب المذكور يفرد مساحة خاصة لتحليل الوضع الاستراتيجي لروسيا، واحتمالات المجابهة في أوروبا على نحو خاص. فروسيا، في نظره، تحاول استعادة ما فقدته من نفوذ حماية لأمنها القومي، خاصة في أوروبا. وعلى الرغم من حقيقة الاستقرار الذي شهدته أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن احتمالات الحرب هناك تظل قائمة، ولا ينبغي استبعاد تطوّرات مفاجئة في هذا الصدد.

الصورة التي رسمها فريدمان للعالم قاتمة، ولكنها تُسهم في تفسير خيارات قوى إقليمية وعالمية كثيرة، في المنطقة العربية، والشرق الأوسط، وتُسهم بقدر أكبر في تفسير لماذا كان إضعاف مصر، وما يزال، جزءاً من استراتيجية الولايات المتحدة، ورهاناتها الحقيقية في هذا الجزء من العالم.