الخميس 11 فبراير 2016 / 19:17

كنزُ الأمير الفرنسي الصغير

1
مدينة "فارساي" الفرنسية تحتفل بالذكرى السبعين لنشر رواية "الامير الصغير" عن دار غاليمار. وتقيم معرضاً كبيراً (منذ نوفمبر 2015 الى نهاية فبراير 2016)، فهذا (الأمير الصغير) ظاهرة روائية معجزة في أدب الاطفال أنجزها الروائي والشاعر والطيار الفرنسي أنطوان دي سانت أكسوبئري (1900-1944)، ونشرها أول مرة بالإنجليزية والفرنسية في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1943، وكان فلتة لم تتكرر منذ عقود في عالم الكتب الأكثر مبيعاً في العالم أجمع، فاق كل جماعة في نويل، أو غيرها من الجوائز،
- ولا جائزة إلا القراء.

2
- لقد ملأ "الأمير الصغير" الدنيا وشغل الناس وشغّل الناس
- وخلق القارئ الصغير والكبير،
وهذا الاحتفال الفرنسي ليس الأول، ولن يكون الأخير في العالم، فهو يكرس الشخصيات التي عاشرها قرّاء هذا الأثر من خلال المشاهد التمثيلية، والتعريف بالكاتب المغامر والروائي، وبروحه التي نلقي بظلالها على أبطال كتبه،
كما يفوز زائر المعرض بمشاهدة نماذج كثيرة من أعمال الرسامين والمصوّرين والسينمائيين فضلاً عن اطلاع الجمهور الزائر على مخطوطات، ورسومات الكاتب
- علماً أن الجمهور الزائر يمرّ بشباك لاقتناء بطاقة الدخول.

3
لم يعمّر الكاتب الطيار طويلاً، فقد اختفى مع طائرته ذات رحلة على سواحل مرسيليا في 31 يونيو 1944، قبل أن يشهد صدور كتابه في فرنسا أول مرة. عن دار النشر الكبيرة "غاليمار" سنة 1945. ولئن وجدت فرق الأبحاث الطائرةَ الهالكة في البحر سنة 2000، إلا أن الطيار الكاتب اختفى إلى الأبد،
و ترك الأمير الصغير في دنيا الأدب.
- وصار الأمير خادماً للورثاء وينمّي ثروة الناشر وشعب من المستثمرين دون تعب أو شكوى أو لجوء إلى نقابة أو محكمة، فهذا الأمير الصغير خادم كبير.

4
كانت السنوات الأولى لنشر "الأمير الصغير" عادية من حيث استقبال القراء لهذا الأثر الأدبي الذي ستثبت الأعوام اللاحقة أنّه كتاب خرافي، ومع تتالي الأيام، بدأ "الأمير الصغير" يبسط ظله على أرض القراءة، وصار يحقق تقدماً غير مسبوق
- فعدد طبعات الأمير بلغت ثلاثة آلاف، وعدد الترجمات وصل إلى 290 لغة ولهجة, وتقول الإحصاءات الغربية، هذا المجد لم يعرفه كتاب آخر غير "الإنجيل".

5
- ان الحدث هو أن فرنسا تحتفل بتفاصيل الأمير الصغير الذي صار أسطورة الناشرين، الذين كسبوا من الأمير أموالاً طائلة، وخيالية، فالكتاب يواصل بنفس منقطع النظير تحليقه في سماء جميع اللغات، دون استثناء اللغات المنقرضة أو المحدودة السكان الناطقين بها،
- ولكن حقوق التأليف لهذا الكاتب سقطت في اليابان، وفي كندا منذ سنة 1995، أي بعد خمسين سنة من وفاة الكاتب سنة 1944.
- ولكن بقية بلدان العالم لا تسقط في قانونها حقوق التأليف إلا بعد سبعين سنة من رحيل الكاتب، أيْ خلال عام 2015.
- وهذا ما يفسر عدد الطبعات سنة 2014، وعددها 9 طبعات،
- ولكن هذا العدد وصل إلى 30 طبعة سنة 2015 بعد سقوط حقوق الورثاء.
- وكأنّ الرقم 30 يعني التشفّي من الناشر ومن الورثاء،
- وفي بلجيكا سارعوا بوضع النسخة الفرنسية من الأمير الصغير للعموم بصيغة PDF
- إلا أن فرنسا وحدها، في العالم، شكلت الاستثناء الحقوقي، وأعلنت أنّ سنة 2032 هي تاريخ دخول الأمير الصغير إلى المجال العام أي بعد 88 سنة من رحيل الكاتب، وليس 2015.
- وهذه حكاية طويلة، تتذرع بالقانون، وباستشهاد الرجل الكاتب "من أجل فرنسا"، والغاية منها هي التمطيط في مدة استغلال الأمير الصغير.
- وهذا يطرح أكثر من سؤال من قبل الورثاء الذين يصرون على المزيد من السنوات لإطالة حياة حق الكاتب من أجل إدامة عمر استغلال الأمير الصغير الذي جلب لهم المال الوفير.

6
- المثير في الأمير الصغير هو أنه كنز لا يريده الورثاء أن يفنى.
ولذلك لم يولّد الكنز القناعةَ عند الورثاء، ولا عند الدولة الفرنسية، فهو الدجاجة التي تبيض ذهباً فلا يعقل ذبح الدجاجة التي توفر كل هذا الربح؟
- بل إن الأمير الصغير صار له شعب مؤلف من ملايين القراء تم توالدهم عبر سبعين سنة، ولا يكفّ عن التزايد والتوالد، ولكن لكل بداية نهاية، فإن سقوط حقوق التأليف قد حلّت مثل اللعنة على الورثاء الذين أثروا ولم يقتنعوا بأنّ القناعة كنز لا يفنى!

7
- لقد غدا الأمير الصغير نوعاً من العملة النقدية، درّ على فرنسا، والناشر الفرنسي، والورثاء الفرنسيين أموالاً لا يمكن إحصاؤها، لأنّ حقوق التأليف لم تشمل النص وحسب، بل ضمّت الرسوم أيضاً التي أنجزها الكاتب بنفسه،
- وتم استثمار الرسوم في كافة مجالات الحياة عند الأطفال، والحديث هنا يطول
- وصاحب الأمير الصغير بات حاضراً في المتداول من النقود، من خلال الورقة النقدية التي أصدرها البنك الفرنسي Banque de France ذات الخمسين فرنكاً 50 الصادرة سنة 1992
بمناسبة خمسونية صدور الطبعة الأولى من "الأمير الصغير"، وقد ألغى (اليورو) مفعولها.
- ولكن الأمير الصغير ظهر في طبعات نقدية وميداليات ذهبية محدودة ايام "اليورو " ، فهذا الامير لا يمكن ان يرتاح طالما ان روح النشاط التجاري الفرنسي قد نجحت في جعل "الامير الصغير" منجما ذهبيا لا ينضب .

6-
ولعل هذا الأمير الصغير يشير إلى ما يغفل عنه العرب هو أن الثقافة عبر مختلف أدواتها مثل الكتاب والسينما والموسيقى ممكن أن تكون مصدر استثمار لا تفنى،
ولكن ماذا فعل العرب برموزهم الكتاب والأدباء؟
- الحقيقة لا يجوز أن مرتكب مقارنة العرب الآن بفرنسا وقد تشبثت بثروتها، وأدركت أن الأمير الصغير هو كنزها الباقي.