الجمعة 20 مايو 2016 / 18:23

بين طائرتين مصرية وروسية... آداب الحزن والجريمة

قبل عام، حينما سقطت طائرة روسية في سيناء، ابتهل فريق سياسي، وانطلق سيل من الشمّات، ليكيدوا النظام المصري، متناسين الضحايا وأهلهم والمشاعر الإنسانية، وأبجديات التعاطف والترابط البشري؛ نحن في خضم الأمور الكبيرة نغرق تماماً في الوحل وننسى أنفسنا

تألمت البارحة لمنظر سترة نجاة طافية على البحر الأبيض المتوسط، قال أحد الذين أرسلوها إلى وسائل الإعلام أنها تعود لحطام الطائرة المصرية المنكوبة التي تحطمت أثناء رحلتها من باريس إلى القاهرة. تألمت ومعي عبرات لا تنتهي، ودار في عقلي سيناريوهات التحطم، بين العمل الإرهابي، والعطل الفني، فأوقفت نفسي فورًا.

نحتاج أن نعلّم أنفسنا أدبيات التعامل مع الكوارث، والأزمات الإنسانية، ونقل أخبار التفجيرات الإرهابية. نحن ننقل الأخبار وكأنها لا تعني أحدًا، وننسى أن بين حطام الطائرة، بشراً فقدوا وماتوا وتعرّضوا لأصعب المواقف، فالواجب أولاً هو التعاطف مع الضحايا، تالياً لذلك تعزية أهلهم وذويهم، ثم نفتح الباب للتحليل والاستفادة مع الحفاظ على المشاعر الإنسانية، حتى لا يصبح الموت رخيصًا، والتعاطف جافًا.

قبل عام، حينما سقطت طائرة روسية في سيناء، ابتهل فريق سياسي، وانطلق سيل من الشمّات، ليكيدوا النظام المصري، متناسين الضحايا وأهلهم والمشاعر الإنسانية، وأبجديات التعاطف والترابط البشري؛ نحن في خضم الأمور الكبيرة نغرق تماماً في الوحل وننسى أنفسنا.

أنا واثق من أن كثيرًا من هؤلاء لو أعادوا النظر بما قالوه في ذلك الحادث المؤلم لكان موقع الخجل في قلوبهم كبيرًا. بئس السياسة تلك التي تجعلك تتجاوز الدماء البريئة، لركابٍ أبرياء كانوا في طائرة تتجه بهم لوطنهم يحملون الهدايا ولعب الأطفال، حولتهم قنبلة إلى كتلة أسى حقيقية. كيف لقلب أن يبتهل فرحًا للاستفادة من الحادث كأمر سياسي ويتجاهل الأبعاد الإنسانية؟

بعد التعزية والتعاطف، علينا أن نفكر في أبعاد كبيرة لما جرى؛ ولنضع الحديث في سياقه السليم، فالذي جرى هذه المرة معكوس لما جرى في حادثة الطائرة التي انفجرت فوق سيناء، وفيها سياح روس.

بعض التصريحات التي تقول إن العمل الإرهابي مرجح، تبني ذلك على سلامة الطائرة والطيار، وأنها لم تشك عطبًا، وسقوطها المفاجئ ينبئ بحادث غير عادي، وهذه المرة سيكون مسار التحقيق دوليًا، فالطائرة الآتية من مطار شارل ديغول كانت قبله في مطار أوروبي وآخر إفريقي، واستحضار عمليات التفتيش والبحث سيتضمن هذه المطارات لا محالة.

قناة عربية وضعت تقريرها عن الحادث، وربطته بحادث خطف الطائرة المصرية التي انتهت في قبرص، وحادثة سقوط طائرة السياح، وعنونت تقريرها (سقطت أم أسقطت)، ولم تنسى في آخر جملة، أن تحمّل النظام المصري مسؤولية سقوط الطائرة، معتبرة أن سبب سقوط إهمال وتقصير! وهذا هو أحد جوانب الاستغلال السياسي للحادث الإنساني، وإن كان استغلالاً ناعمًا إلا أنه يبقى استغلالاً. فهم يحتاجون في حربهم ضد مصر إلى كل شيء، فلو أن ضفدعة نقت بصوت مختلف لقالوا إن السيسي وداعميه هم السبب الكبير لمثل هذا التغير في الصوت.

ما لا يدركه العرب، أنّ حجم التحديات المقبل عليهم، يحتاج كل ذراع فيهم، وكل يد، لتكون شريكة في التنمية وصد المخطط التآمري الذي يريد إسقاط الدول التي لم يدمرها طوفان الفوضى الخلاقة. نحتاج أن يكف الشامتون والمتربصون عن هذه السلوكيات القاتلة. نحتاج أن نربي في أنفسنا شيئاً من الإنسانية، ومزيدًا من تعاليم الحزن والأسى والتعاطف.

ما لا يدركه العالم اليوم، أنّ تطرفًا مزدوجًا ينمو، وأن الحوادث المتتالية غرضها كسر قشرة الإنسانية والترابط، وعلينا هدمها بمزيد من التعاون المشترك، ومزيد من التعاطف لصالح أرواح ضحايا كل إجرام، والمواساة لكل حزين، ودعم الاستقرار.

رحم الله ضحايا الطائرة المصرية، وجبر خواطر أهلهم من كل الجنسيات، فالطائرة شملت عددًا من الجنسيات، ومن بين الضحايا ممثل، وأطفال، وفيها فتاة مراهقة عائدة لتوها من علاج السرطان مع والدتها، فأيّ قلب هذا الذي يستخدم مأساة كهذه في بازار سياسي!
حفظ الله مصر... وردّ إلى وحوش التسييس إنسانيتهم المفقودة، ودحر الإرهاب.