الأربعاء 25 مايو 2016 / 18:34

الدولة المُختارة

على مدار التاريخ الأمريكي يخلط القادة المؤسسون بين الخطاب الديني والبرغماتية الاقتصادية، وكأنَّ هذا لا يحمل تناقضاً كارثياً، حتى أن بريجنسكي بعد كلمات الاختيار الربَّاني، مباشرة، يذكر أن الصين قفزتْ إلى قمة الاقتصاد العالَمي، مع زيادة مديونية أمريكا في سنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين

يذكر زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، في كتابه "رؤية استراتيجية.. أمريكا وأزمة السلطة العالمية"، أنه بدا بعد عام 1991 وكأنَّ الانتصار الأمريكي سيدوم طويلاً من دون منافس حقيقي، وراح قادة أمريكيون يتحدثون بثقة عن القرن الحادي والعشرين بوصفه قرناً أمريكياً آخر. وسارع الرئيس بيل كلينتون إلى تحديد النبرة في خطاب رئاسته الثانية في العام 1997 بقوله: في هذا التنصيب الرئاسي الأخير من القرن العشرين، دعونا نرفع أعيننا نحو التحديات التي تنتظرنا في القرن الجديد. تقف أمريكا وحدها بوصفها الأمة أو الدولة التي لا يُمكن الاستغناء عنها بالنسبة إلى العالَم. وقد قام جورج دبليو بوش بترجيع الصدى الأكثر توراتية ورسولية وغروراً حين قال في أغسطس(آب) 2000: أمتنا اختارها الرب وكلَّفها التاريخَ لتكون نموذجاً للعالَم.

على مدار التاريخ الأمريكي يخلط القادة المؤسسون بين الخطاب الديني والبرغماتية الاقتصادية، وكأنَّ هذا لا يحمل تناقضاً كارثياً، حتى أن بريجنسكي بعد كلمات الاختيار الربَّاني، مباشرة، يذكر أن الصين قفزتْ إلى قمة الاقتصاد العالَمي، مع زيادة مديونية أمريكا في سنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهذا يؤدي إلى ارتياب متصاعد أمام مدى الحيوية الاقتصادية الأمريكية. إن المثير والمُدهش لدى بريجنسكي هو كيف أن أمة أو دولة أعلنتْ مراراً وتكرارا بوضوح لا لبس فيه، أن الرب اصطفاها لصناعة التاريخ، فإذا بدولة أخرى مثل الصين أو اليابان تنتعش اقتصادياً. إن الجُرم الذي ارتكبته الصين أو اليابان يُعدَّ جرماً دينياً إلا أن مُناوَرَة الصين أو اليابان، تأخذ شكلاً اقتصادياً زائفاً، لكنها في العمق كما قد يراها بريجنسكي والأمريكيون، مُخالَفَة لمشيئة الرب.

بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) أفضت الحرب على الإرهاب، ضباباً في الرؤية، وزاد الوضع تفاقماً مع توسيع الحرب في 2003 على العراق، وهنا بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تفقد ثقة مَنْ كان يعتبرها شرطي العالَم، ثم جاءتْ أزمة 2008 المالية، لتنسف ما تبقَّى من الثقة في قدرة أمريكا على إدامة قيادتها الاقتصادية، وطُرحتْ في الوقت نفسه، أسئلة أساسية حول مدى اتصاف النظام الأمريكي بالعدالة الاجتماعية وأخلاقيات العمل. ومع ذلك حتى الأزمة المالية، وما واكبها من ركود مصحوباً بالبيانات الصادمة عن مضاربات الجشع الصادرة عن وول ستريت، لم تستطع أن تمحو كلياً الصورة المحفورة بعمق في الخارج عن نجاح أمريكا. وهنا زبغنيو بريجنسكي مثل هنري كيسنجر، يرى أن هناك أملاً كبيراً لعودة أمريكا كما كانت في القرن العشرين، أي أن الفرصة ما زالتْ سانحة لعزف مقطوعة الأمة الصانعة للتاريخ.

بدهشة مُبطَّنة بإعجاب بريجنسكي، هرولتْ المستشارة الالمانية إنجيلا ميركل بعد الأزمة المالية، إلى الإعلان بقوة، في خطاب لها أمام الكونغرس الأمريكي، عن حماستها والتزامها بالحلم الأمريكي. وقد حددت الحلم الأمريكي، بأنه الفرصة المُتاحة لكل إنسان كي يكون ناجحاً، كي يُنجز ذلك خلال الحياة بالجهد الشخصي، مُضيفة بأن ليس هناك ما يلهمني أكثر من الحلم الأمريكي. المُفارَقَة أن بريجنسكي كان قد بدأ فصله الثاني من كتاب "رؤية استراتيجية.. أمريكا وأزمة السلطة العالمية"، بعنوان "انكسار الحلم الأمريكي"، لكنه من فرط إيمانه بالدولة المُختارة، ساق خوفه من شؤم انكسار الحلم الأمريكي.

يستشهد زبغنيو بريجنسكي في كتاب سابق، وهو "قطعة الشطرنج الكبرى" بكلمات صموئيل هانتينغتون 1993: إن عالَماً من دون سيادة أمريكية سيكون عالَماً متسماً بدرجة من العنف والاضطراب أكبر وبدرجة من الديموقراطية والنمو الاقتصادي أقل من العالَم الذي تستمر فيه الولايات المتحدة الأمريكية في ممارسة النفوذ على إدارة الشؤون العالمية، وهكذا فإن السياسة الدولية المستمرة للولايات المتحدة، هي أمر رئيس ومهم لرفاه الأمريكيين، ولمستقبل الحرية، والاقتصادات المفتوحة، والنظام الدولي في العالَم.

الكلمات تعني أننا في 2016، لولا قيادة الولايات المتحدة لكان العنف أكثر من هذا. مع أن التاريخ الحديث يعجز عن تخيُّل فوضى عنف مُعولمة أكثر من تلك التي نراها برعاية الولايات المتحدة في السنوات الخمس الأخيرة. وتعني أيضاً أن مجرد معرفتنا برفاه أمريكا والاطمئنان عليها، سيجعل فناء بلادنا تضحية لا تُذكر، تضحية طفيفة لا يلتفت إليها إلا الأناني. زبغنيو بريجنسكي وهنري كيسنجر وصموئيل هانتينغتون، هم مهندسو الخراب الأمريكي، ولا يستطيع القارئ إلا أن يصفهم بالعنصرية والإجرام والدعاية في ثوب فكر زائف لأكثر الإمبراطوريات سفكاً للدماء، وهي الإمبراطورية الأمريكية المُختارة لصناعة التاريخ.