الأربعاء 25 مايو 2016 / 18:46

أمثولة الخواتم: عن لقاء الأزهر بالفاتيكان

لا أظن أن أحداً من المثقفين المعنيين بالحوار بين الأديان، لا يتذكر الرسالة التي بعثها حشد من العلماء المسلمين، يتوزع بين المذهبين السنّي والشيعي، إلى البابا بينيديكت السادس عشر بعد أن ألقى محاضرته المثيرة للجدل في جامعة ريجينسبورغ، في الخامس عشر من أكتوبر 2006. كانت الرسالة هادئة وإيجابية وتبشر ببدء حوار جاد بين المسجد والكنيسة، لكنّ ما لفت نظري هو ما انطوت عليه من غرابة في بعض تفصيلاتها، فبقدر ما حاولت الرسالة الانفتاح على الآخر، وقفت موقفا مرتاباً من الذات، إنه موقف يهمس بمذهبية ما تزال تنهش في جسد الثقافة العربية إلى يوم الناس هذا.

جاء في الرسالة الموجهة إلى البابا ما نصه: "يعد المفكر ابن حزم المتوفى 1096م الذي استشهدتهم به، شخصية مقدّرة تماما لكنها هامشية – وإن كانت ذا شهرة – وهو ينتمي إلى المذهب الظاهري الذي لا يتبعه أي مسلم في العالم اليوم، وإذا أراد إنسان البحث عن نصوص أصيلة بشأن عقيدة التنزيه، فإن هناك شخصيات لدى المسلمين أهم بكثير من ابن حزم من حيث تأثيرهم ومرجعيتهم في مجال العقيدة الإسلامية مثل الإمام الغزالي المتوفى 1111 م وكثيرين غيرهم".

عجبت أولاً، لأنّ الرسالة تقدم حكماً غير علمي على ابن حزم، المفكر العظيم الذي يعده إدوارد سعيد أحد أهم الشخصيات التي أثرت فيه مع ابن مضاء القرطبي، ويعده إحسان عباس من أعظم مفكري الاسلام، فأبو محمد ابن حزم الذي يقول: "من أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليستعمل أخلاقه، وسيره ما أمكنه، أعاننا الله على الاتساء به، بمنّه آمين"، ليس كما تزعم الرسالة التي تأرجحت بصورة غامضة بين اعتباره شخصية ذات شهرة، إلا أنها هامشية، ثم جعلت شخصية الغزالي، بمقارنة، غير موضوعية، بأنها أكثر أهمية من ابن حزم، ولسنا ندري ماذا تقصد "الرسالة" بهذه المقارنة العجيبة، التي تضع عالماً في مركز وآخر في الهامش، على نحو فيه ما فيه من مخالفة التاريخ، ومن ليّ عنق الحقيقة في حوارها مع الآخر الذي تعتقد بأنه يجهل التاريخ وخفاياه، وتبين أن هذا الحوار لا يحسن أن يكون موضوعياً مع ذاته. ماذا تعني الرسالة، التي أرسلها حشد من العلماء إلى البابا، في وصفها لابن حزم بأنه هامشي، هل كانت تعني بأنها شخصية لا تحظى باعتراف الفقهاء. إن كان الأمر كذلك فنحن نعرف بأن الهامشي قد يكون أكثر أهمية ممن وضعوا في المركز، لأنّ الهامشي يظل حاضراً في الثقافة غير الرسمية مغيباً في ثقافة النخب، لأنه لا يعبر عن شعاراتها الرسمية المربكة والمرتبكة، وبما أن الرسالة قد أرسلها سنة وشيعة، فإن الثقافة الأصولية سواء أكانت سنية أم شيعية تكرر الموقف القديم التاريخي فلا تعترف بابن حزم ذلك المفكر المنهجي المعبر عن ثقافة عصره، وتقف من الغزالي موقف المحب والمتقبل، مما يعني أن الرسالة، كانت تحمل صراعاً إسلامياً إسلامياً، وتسعى في الوقت نفسه إلى حوار إسلامي مسيحيّ، وهنا علينا أن نذكر دوماً بأننا قبل أن نتصدى لمحاورة الآخر علينا أن نحاور تراثنا بحميمية حتى يتسنى للحوار أن يوصل إلى ضفة محبة وأفق سلام مع الذات قبل الآخر.

ويعوز الموقف من ابن حزم المفكر، المالكي المذهب في الأصل، الموضوعية والدقة والإنصاف، إذ القارئ لكتابه "الفصل في الملل والنحل" سرعان ما يكتشف اطلاعه الواسع على مجمل المذاهب والأديان، كما تظهر رسالته في الرد على ابن النغريلة اليهودي اطلاعه الواسع أيضاً على المصادر اليهودية في أصولها. لهذا يصعب تهميش مفكر بهذا العمق مهما كانت الأسباب، حتى وإن كانت الذات منقسمة على نفسها منكفئة على ذاتها لكنها تسعى إلى أن تظهر للآخر بأنها موضوعية ومحبة للسلام. كما تظهر الرسالة موقفاً مبطناً لخلاف مذهبي قاد إلى توافق سني شيعي، يعد الغزالي "أهم بكثير" من ابن حزم! ويبدو أنّ البابا أدرك عندما استقبل الرسالة، ما يقوله الخطاب المبطن، فلابن حزم حضور مشرف في الغرب، ويكفي الإشارة هنا إلى كتابه "طوق الحمامة" الذي ترجم إلى أكثر من عشرين لغة وكتبت عنه دراسات في معظم اللغات، كما ويكفي الإشارة إلى المستشرقين الأوروبيين واهتمامهم المستنير بتراث ابن حزم. ولعلي لا أجانب الصواب، عندما أشير هنا إلى أن تاريخاً من العثرات والإخفاقات قد منع الحوار بين الإسلام والمسيحية من أن يحقق تواصلاً ثقافياً خلاقاً، بعضها يرد إلى الموقف الملتبس من التراث والتاريخ وبعضها يرد أيضاً إلى الموقف غير المتسامح من الآخر، لكن ما يجعل لقاء شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب ببابا الفاتيكان فرنسيس يسفر عن نتائج عظيمة، هو إدراك الأزهر والفاتيكان على السواء حجم التحديات التاريخية التي تحول بين التلاقي الحضاري بين المسلمين والمسيحيين، رغم أنهم يشكلون نصف سكان المعمورة، كما يدرك الطرفان أن اللقاء يأتي في ظروف صعبة، جعلت العرب مسلمين ومسيحيين يتركون أوطانهم هجرة ولجوءاً إلى أوروبا، بسبب الصراع الطائفي البغيض الذي مزق المنطقة، وجعل علماء المسلمين ينشغلون بالتراشق المذهبي والتلاسن الطائفي، الذي دللت الوقائع التاريخية بأنهما يتعاظمان عندما ينكفئ الدين على نفسه ويحاور نفسه في مرايا الأنا المتضخمة سواء أكانت محدبة أم مقعرة. فيرتد الدين إلى التاريخ لينفصل عن سياقه، ويجري إعادة ما في كل دين وملة إلى مؤثرات أجنبية، كما يجري الحديث عن الإسلام وأن بعض شعائره تعود إلى اليهودية أو المسيحية، مما يعني بأن المذهبية المتعصبة في ديانة ما كانت نتيجة انقسام الديانة على نفسها، فالتاريخ الإسلامي يبرهن بأنه كلما كانت حواضر الإسلام منفتحة على الأديان اختفت الصراعات المذهبية فيها، وبذلك فإن التسامح، كما في تجربة الإسلام في الأندلس، نشأ في اللقاء بين الأديان، وقد سقطت الأندلس عندما حاورت الديانة الإسلامية نفسها ولم تر المسيحية إلا ذاتها، فعندما تلتقي الأديان، تختفي المذهبية، رغم أن هناك من يوهم بأن الحوار بين المذهبين في الديانة الواحدة أهم من التلاقي بين ديانتين.

وهكذا فكلما اتسعت الروابط بين الأديان تلاشت المذهبية. ومن الجلي أن الأزهر وشيخه يدركان ذلك أشد الإدراك. لكنني أقول، ونحن نشاهد هذا اللقاء التاريخي بين شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وفرنسيس بابا الفاتيكان، بأن الحكمة فيه كبيرة، ونحن أشد ما نحتاجها اليوم، وإن كنت أرى أنّ هذا اللقاء التاريخي لا ينبغي أن يوقف الحوار الثقافي بيننا وبين الغرب، فيتزامن الحوار الديني بكل ما ينطوي عليه من قداسة والحوار الثقافي الذي ينشغل بالحاضر ومسائله وتفصيلاته بعيداً عن المطلقات والعقائد ومناطق القداسة.

وسأروي في خاتمة هذه المقالة حكاية الخواتم الثلاثة كما رواها المسرحي الألماني ليسنج (-1781)في مسرحيته ناتان الحكيم، إذ يحكى أن صلاح الدين الأيوبي دعا ناتان الحكيم وكان يهودياً، وسأله عن الدين الحق: أهو اليهودية أم الإسلام أم المسيحية؟ فذعر الحكيم، وتأمل وقال: سأحكي لك أمثولة الخاتم يا مولاي، كان في قديم الزمان، خاتم فريد ينتقل من جيل إلى جيل، حيث يهب الأب خاتمه المتوارث هذا إلى أعز ابن له، وقد صادف بتعاقب السنين أن امتلكه والد له ثلاثة أبناء، كلهم في خلق وطهارة وجمال وفروسية، فحار الأب بينهم، فلم يستطع اختيار واحد منهم ليهبه الخاتم، فلقد أحبهم على السواء، وقبل أن يموت قرر أن يعطي الخاتم لماهر حاذق حتى يصنع له خاتمين يشبهان تماماً الخاتم الأصيل، وتم ذلك فعلاً، وبينما هو على فراش الموت، دعاهم ووهب كل واحد منهم خاتماً، ومنذ ذلك الحين، ظن كل ابن من أبنائه بأنه يمتلك الخاتم الأصيل، وأن في يديه الحقيقة المطلقة غير المزيفة، ويتحاججون في ذلك، وكثيراً ما يتصارعون، والله وحده هو العالم بالحقيقة.

ما تقوله الحكاية أننا جميعاً من البشر، لنا إله واحد هو من أرسل الانبياء وأوجد الاديان وهو من قال في كتابه الكريم "لا إكراه في الدين".