الأحد 28 أغسطس 2016 / 17:57

يومي الأول بالمدرسة

لم أكن طفلة مطيعة أو هادئة. عذّبتُ أمّي كثيرًا برفضي استيعاب فكرة عجيبة لم أرها منطقية أبدًا: أن تتركني ماما في مكان غريب (المدرسة)، ثم تمضي!

عامٌ دراسي جديد يبدأ هذه الأيام. ومع بدايته كل عام، أتذكّر يومي الأول بالمدرسة، كأنه بالأمس فقط. كلما تذكرته ملأ أنفي مزيجٌ من روائحَ متباينة: رائحة دهانات الحوائط بالأبيض والديسكات الملونة بالروز والأزرق والأخضر، والأستيكة (الممحاة) التي لها رائحةُ الفواكة (لم أحب رائحتها يومًا؛ لأنها مخادعةٌ تحمل شذًا لا يخصّها)، رائحة ألوان الشمع (ماركة: ألوان اللخبطة بتشخبط شخبطة)، روائح الشجر المغسول الذي يُطلُّ علينا من شباك الفصل، روائح حقائب الأطفال المدرسية الجديدة التي كنّا نتبارى لتكون الأجمل والأكثر لونًا وبريقًا، وسرعان ما ستختفي ألوانُها الزاهية مع الأيام وتتحول جميعُها إلى لون التراب من فرط سوء معاملتها في حوش المدرسة واستعمالها كـدشَم حربية في معاركنا الوهمية مع إسرائيل (ونحن نهتف: هانحارب، هانحارب، إسرائيل الأرانب)، والأجمل، رائحة رمل الحوش الشاهد على شقاواتنا ومشاكساتنا مع الدادات الطيبات اللواتي لم يقدرن أبدًا على استيعاب كوارثنا الصغيرة، حين نخرّب كل النظام الذي صنعنه في الصباح الباكر، فيتحول مع نهاية اليوم إلى فوضى وعبث.

لم أكن طفلة مطيعة أو هادئة. عذّبتُ أمّي كثيرًا برفضي استيعاب فكرة عجيبة لم أرها منطقية أبدًا: أن تتركني ماما في مكان غريب (المدرسة)، ثم تمضي! كنتُ أملأ الدنيا صراخًا بمجرد أن تُسلّمني للدادا وتهمّ بالرحيل. أجبرتها على المكوث معي حتى نهاية اليوم الدراسي الأول، جالسةً على الديسك الأخير الشاغر في آخر الفصل. وفي اليوم الثاني رفضت إدارةُ المدرسة هذا "التهريج"، فانتقل كرسي المسكينة ماما من داخل الفصل إلى الكوريدور الخارجي، على أن أجلس أنا داخل الفصل على الديسك المجاور للشباك المطل على الكوريدور لأرقبها بين البرهة والأخرى وأتأكد أنها هناك. وكلما حاولتِ التسللَ ماضيةً إلى عملها، يُعيدها إلى كرسيها "صاغرةً" صراخي بالصوت "الحيّاني". مع اليوم الرابع تنازلتُ وقبلتُ فكرة أن يحلّ محلَّ أمي، الصبيّ الريفيّ (عبده)، الشغال الذي كان يعمل عندنا، (أهو حاجة من ريحة البيت والسلام). إلى أن دخلتْ الفصلَ يومًا عميدةُ المدرسة العبوس، ميس لولو، والشررُ يتطاير من عينيها وهي تنظر لي آمرةً بحسم: "مفيش ماما، ومفيش عبده، وهاتقعدي في الفصل هادية مؤدبة زي زمايلك لغاية الحصة الأخيرة! أنتِ بنت كبيرة وأمورة وبتسمع الكلام". وفجأة شعرتُ أني "بنت كبيرة وأمورة ولازم أسمع الكلام". لا أنسى نظرة ميس لولو، التي كان يسميها الأولاد الخبثاء: "غولدا مائير"، وهي ترمقني بنظرة اشمئزاز من "الدلع الماسخ". تلك النظرة التي حولتني فجأة إلى "بنت كبيرة"، رغم أنني كنت الأصغر في الفصل لأن أمي أدخلتني وشقيقي المدرسة مبكرًا عن السن القانونية عامين كاملين، وكان هذا أيسر على أيامنا.

أجمل لحظات بداية العام الدراسي، حين يأتي أبي بأفرخ جلاد الكراسات ذي الألوان المبهجة، ثم يجلد بحرفية شديدة الكراسات النحيلة. أما الكشاكيل الضخمة فكان لابد أن يقصّ منها تجويفًا بسُمك الكشكول، ثم يلصق تيكيت، ويكتب بخطه الجميل: اسمي، وتحته اسم الفصل، ثم اسم المادة: عربي، إنغليزي، خط، موسيقى، حساب.

متى مرّت السنوات، وتعاقب الأساتذةُ والفصول والمواد الدراسية التي ازدادت تعقيدًا؟ متى تحول الماريول الطفولي ذو الكولة الحمراء إلى دريل ثم تايور أزرق، ثم فساتين ملونة في الجامعة؟ متى تحول ديسك المدرسة الروز إلى لون الخشب البُنّي الوقور، ثم إلى بنش الكلية في المحاضرات، ولوحة الرسم في قاعة التصميم المعماري بهندسة عين شمس، ثم إلى هذا المكتب من خشب الأرو المصقول في بيتي، ثم إلى مكتب جديد في بلد يحترم الإنسان، عليه أكتب مقالي الآن؟!

إنها معجزةُ الزمن، التي لن نفهمها.

Twitter: @FatimaNaoot