الإثنين 29 أغسطس 2016 / 21:15

ثورة لأنها ليست حرباً أهلية

لا دليل على أن ما يجري في سوريا حرباً أهلية، فهي ليست بين طوائف، ولا بين أحزاب سياسية، أو ميليشيات ذات صبغة واحدة، أو حتى بين تجمعات تمثل مناطق معينة

في سوريا خاصة، من بين دول الربيع العربي، كانت كل القوى الإقليمية والدولية جاهزة لإحباط الثورة قبل أن تبدأ، حتى أكثر من جاهزية الثوار السوريين لإتمام ثورتهم بـ"نجاح".

مع ذلك، فاجأ السوريون أنفسهم بـ"صنع الثورة" أكثر مما تفاجأت القوى التي لا مصلحة لها في قيام ثورة سورية. ولذلك أفلحت تلك القوى في تعطيل انتصار الثورة، بينما فشل الثوار في المحافظة على الطابع السلمي للثورة التي أرادوها لسوريتهم، وضد الطغيان.

تلك القوى تلاقت في مصالحها مع النظام، فكلا الطرفين أرادها مسلحة؛ النظام بادعاء أنها "فورة" متطرفين طائفيين إسلامويين ضد نظام علماني، والقوى الإقليمية والدولية الخائفة من تصدير نموذج لا تريد له الانتشار، وتشكيل ديناميكية سياسية جديدة تضع شعوب المنطقة على أول طريق الديموقراطية، وتحقيق تقدم اقتصادي وعلمي يردم الهوة الهائلة بين الشعوب الأوروبية وشعوب الشرق الأوسط والعالم العربي.

لدى كثير من السوريين المؤيدين للثورة انتقادات لها منذ أيامها الأولى، وصولاً إلى التعقيدات التي جعلت بعضنا يتيقن من أن الثورة اختُطفت إلى الأبد. ولدى مؤيدي النظام كثير من الانتقادات تتعطل عند التفكير في "احتمالات" أن يحكمهم داعش بدلاً من النظام!

الطرفان اللذان ورطا السوريين في السلاح والحرب هما النظام وداعمو الفصائل المعارضة المسلحة. هذان بررا إطلاق وصف "حرب أهلية" على الحرب السورية، وتعاضد معهما الإعلام الغربي في ترويج الاصطلاح، معتمداً على إنتاج داعش وأخواتها للصورة لـ"تبييض" صفحة النظام، بالرغم من أن النظام قتل 96% من مجموع من قُتلوا في سوريا خلال خمس سنوات، فيما تولت بقية الأطراف، بما فيها داعش، قتل النسبة المتممة.

بالرغم من ذلك، لا دليل على أن ما يجري في سوريا حرباً أهلية، فهي ليست بين طوائف، ولا بين أحزاب سياسية، أو ميليشيات ذات صبغة واحدة، أو حتى بين تجمعات تمثل مناطق معينة.

وليست حرباً أهلية لأنها ليست بين الطوائف السورية. ففي الأصل هي بين جيش النظام وميليشيات متحالفة معه، وبين مكونات سورية (طوائف ومناطق وأحزاب ومنشقين عن جيش النظام). وليست حرباً أهلية لأن المعارضة معارضات متناقضة في مواجهة جبهة النظام وحلفائه الموحدة. وليست حرباً أهلية لأن العناصر الأجنبية هي الفاعلة من بين مكونات كلا الطرفين، بل وذات وزن راجح حتى أكثر من العناصر المحلية.

في اختصار، الحرب ليست بين السُنَّة وطائفة أخرى، أو بين طوائف أخرى، منفردة أو مجتمعة، والمكون السُني السوري. كما أنها ليست بين جيش النظام المكون من قيادات علوية ومرؤوسين من السنة (على الأقل قبل بدء الثورة السورية)، وبين جمهور الطائفة السنية كأكبر مكونات السوريين عدداً.

وليست حرباً أهلية بين الأكراد والسُنة، لأن داعش بقياداته المجهولة والمعلومة ليسوا سوريين حتى لو كانوا سُنة. أما المواجهات المسلحة بين الأكراد والجيش الحر فلا تكاد تُذكر، وعندما حدثت كانت بين مكونين سنيين إذا أراد أحدنا الإصرار على الحديث عن الخلفية الدينية للطرفين.

وفي خصوص الطموحات القومية الكردية التي يقودها حزب الاتحاد الديموقراطي، لا يوجد إجماع كردي على شق الصف السوري، على علاته، في بازار سياسي الأكثر خبرة فيه هم الأكراد، منذ العقود الأولى للقرن العشرين. فحزب (pyd) وضع نفسه في تصرف قوى إقليمية ودولية، خاصة مع صعود نجم داعش، بعد رواج أنه الوحيد من بين أطراف المعارضة الممكن الوثوق في توجهاته في مواجهة داعش، في مقابل فصائل تحمل أسماء وتوجهات إسلامية تثير شعور الخوف من الإسلام في وجه القوى الغربية المتدخلة في سوريا، بما يشبه الإسلاموفوبيا.

فعلياً، لا يمكن التمييز بين داعش، و"جبهة فتح الإسلام" (جبهة النصرة سابقاً)، من ناحية العقيدة والممارسة، بل فقط من ناحية العداء لبعضهما، وهذا ليس مكسباً أكيداً للسوريين الذين قدموا الورود والمياه الباردة لـ"الجيش السوري"، في داريا، قبل أن ينحاز إلى النظام، ويصبح جيش النظام.

ربما كان الوجه الوحيد الجدير بالنقاش، لتصديق أن الحرب السورية هي حرب أهلية فعلاً، هو ملاحظة أن داعمي وممولي كل الأطراف، دون استثناء، هم من غير السوريين. هؤلاء يمتلكون إرادة موحدة، على عكس السوريين، حيث دعموا الأطراف بالمال والسلاح، وبالاحتياجات اللوجستية والإعلامية، وصولاً إلى تسهيل تجنيد العناصر الإسلامية في داعش وأخواتها، ودعم الطموحات القومية الانفصالية في حزب الاتحاد الديموقراطي، عبر مكاتبه الناشطة في أوروبا، أو عبر الجاليات الكردية المنتشرة في العالم. فالكثرة الفاعلة للعناصر الأجنبية، في بعض الفصائل، والدور المتخاذل للأمم المتحدة ومنظماتها، والمال الذي تسلل للثوار السلميين بعد أن غادروا حدود سوريا، ناهيك عن لعبة الأمم في الإقليم والعالم؛ كل ذلك ينفي وجود إرادة سورية في سيناريو الحرب لتكون حرباً أهلية.

الحروب الأهلية، بالمقارنة، اندلعت شرارتها بسبب النفخ الأجنبي في مسائل خلافية كامنة في مجتمعات هشة، وعندما اشتعلت تولى الدعم بالمال دور استدامتها برواتب للمرتزقة، وأعطيات لمغامرين سياسيين أقنعوا جمهوراً جاهلاً وفقيراً باستفزاز جمهور فريق آخر، فثارت حروب أهلية مديدة لأسباب واهية ومزقت مجتمعات أهلية احتاجت عشرات أضعاف زمن الحرب للنسيان والتماثل للشفاء.

الأطراف الخارجية تمتلك أسبابها الـ"وجيهة"، اقتصادية، أو سياسية، أو مختلطة بين السببين، دوناً عن المجتمعات التي تحاربت طوائفها بلا سبب، ودون نتيجة.

على الأرض، في الأيام الأخيرة، بين جرابلس وداريا،لا يختلف التدخل التركي في الشمال، عن تهجير ثمانية آلاف مما تبقى من سكان داريا، هم سكان المدينة قبل أيام (250 ألف نسمة في بدايات 2011).

المثالان يلتقيان في نفي صفة "الحرب الأهلية" عن حربنا، بالرغم من سوء ما حدث في نظر السوري المرتبك في المثالين أمام تدخل أجنبي في "ترابه الوطني"، خاصة مع تهجير سكان مدينة كاملة لإحلال سكان آخرين محسوبين طائفياً على النظام السوري وحلفائه.

في جرابلس، الحلقة الأولى من الحرب الدائرة بين الجيش السوري الحر، وداعش، بدعم تركيا للحر، لم تكن حرباً أهلية. أما الحلقة الثانية السائرة لانتزاع منبج من يد الأكراد فأهدافها تركية بالتوافق مع روسيا وأمريكا، بالرغم من وجود الجيش الحر كأداة تنفيذ على الأرض.

يصح على "حربنا" ما يصح على حرب لبنان، التي أطلقت عليها "أدبيات الصحافة" صفة "حرب أهلية"، حيث أدق وصف لحرب لبنان هو ما أطلقه عليها البطريرك مار نصرالله بطرس صفير: "حرب الآخرين في لبنان"، وهو ما ينطبق اليوم على حربنا في سوريا.