الروائي المصري وليد علاء الدين(المصدر)
الروائي المصري وليد علاء الدين(المصدر)
الأحد 18 سبتمبر 2016 / 18:56

وليد علاء الدين لـ24: الرواية خلاصة جمالية لمحاولة صياغة قلقنا في أسئلة

24 ـ القاهرة ـ نضال ممدوح

عن دار الكتب خان بالقاهرة، صدرت رواية "ابن القبطية" للشاعر والكاتب المسرحي المصري وليد علاء الدين، وأثار صدورها المتزامن مع تصاعد العنف باسم الأديان- اهتمام الأوساط النقدية الذين رأى بعضهم أن الرواية قدمت معالجة جمالية جديدة بجمعها بين عدة فنون سردية، إضافة إلى لغة شديدة التكثيف تقترب من الشعر في مواضع كثيرة من دون أن تفقد سمة النثر التواصلية.

والرواية كما يصفها كاتبها "محاولة جمالية لمعالجة القلق، بهدف تمريره وطرحه كمادة ليتحول إلى هاجس عام على أمل أن نجد حلولاً لمسبباته"، هنا حوار معه حول الرواية.

- لماذا "ابن القبطية" في هذا التوقيت؟ وهل كانت رد فعل لما أثير خلال الفترة الأخيرة من حديث عن فتن طائفية؟
الكتابة الإبداعية ليست رد فعل مباشر لحدث، إنما محاولة لمعالجة قلقنا تجاه شكل وجودنا وشروط استمراره، كذلك ليست قراراً نتخذه – على عكس الدراسات والمقالات مثلاً- إنما هي خلاصة، أو هي الصورة الأخيرة لسلسلة من المحاولات الفاشلة لصياغة قلقنا في أسئلة ومحاولة مقاربته لتمريره وطرحه كمادة للتفكير بهدف أن يتحول إلى هاجس عام على أمل أن نجد حلولاً لمسبباته. إذن القلق هو رد الفعل لما يشهده مجتمعنا من تصنيفات على أسس كثيرة، أخطرها الديني، ورواية "ابن القبطية" هي محاولة لمعالجة هذا القلق جمالياً.



هل وقع بطلك "يوسف حسين" ضحية لهوياته القاتلة؟
كان جديراً بالإنسان بعد الأشواط الطويلة التي قطعها في التغلب على مخاوفه من خلال تصور عوالم غيبية ومحاولة فتح قنوات تواصل معها، أن يدرك أن الدافع وراء كل هذه التصورات واحد -وإن تعددت طرق الوصول من أديان وفلسفات- وبالتالي كان حرياً به أن يعود في رحلة عكسية عبر كل هذه التصنيفات الدينية والفلسفية إلى صورته الأصلية "إنسان"، لا يعني ذلك القضاء بخطأ أي من هذه الأديان أو الفلسفات، ولكن المقصود احترامها جميعها طالما تحترم شرط الإنسانية. لم يحدث هذا الأمر، بل احتمى كل إنسان داخل تصنيفه وتحصّن في مواجهة الآخر. مشكلة يوسف حسين أن رجلاً ينتمي إلى أحد هذه التحصينات، أحبَّ امرأة تنتمي إلى تحصين آخر، وأحبّته، وتزوجا، وكانت البذرة يوسف الذي عاين وشاهد وأيقن كيف تُذيب المحبة -كشرط أولي للإنسانية- كل الفوارق بين الحصون، فاستقبل العالم بهذه الروح وكانت له مع كل خطوة صدمة.

إلي أي مدى نجحت الكتابة في علاج يوسف حسين، أم أنها كانت استعادة للهواجس والكوابيس التي تطارده؟
لم تعالجه الكتابة، الرواية كلها عبارة عن كتابات يوسف حسين (ما كتبه بطلب من المعالج، ونماذج من كتاباته السابقة على خضوعه للعلاج) أرفقها طبيبُه النفساني بتقرير يشير فيه إلى فشل خطط العلاج بالأدوية والصدمات، والتحليل، وحتى الكتابة، طالباً -بصورة غير مباشرة- عرض الأمر على أصحاب الخبرة والمشورة على أمل فهم هذه الحالة والتفكير في علاج لها. العلاج أكثر تعقيداً من مجرد التوصيف.

لماذا جعلت "راحيل" يهودية وما تمثله قناعاتها تتجاوز كل الديانات، خاصة الإبراهيمية منها؟
للبحث في مشكلات تتعلق بقناعات الناس حول الدين الإسلامي لا مفر من الوصول إلى الدين اليهودي، و"راحيل" التاريخية اسم يحمل دلالاته الدينية والفكرية، وهي وثيقة الصلة بـ"يوسف" التاريخي كذلك الذي يحمل دلالاته، وهو ما عالجته الرواية في شخصيتيّ يوسف وراحيل الفنيتين، فراحيل -في الرواية- ليست فقط يهودية، إنها يهودية مصرية خبرت صدمة نزع هوية أبيها الوطنية وعاشت بين أب يصف نفسه بأنه مصري أولًا ثم يهودي، وأم مُمعنة في التحصن بالهوية اليهودية -ليس رفضا للهوية الوطنية وإنما انتقاماً من إقصاء الأخيرة لها ونفيها هي وزوجها وابنتهما إلى معسكر الدين، لذا فإن راحيل نفرت من كل هوية مغلقة، وتاقت إلى هوية إنسانية حرة، وظنت في إمكانية صنعها عبر تذويب الديانات السماوية الثلاث في كائن جديد، لذلك فقد كان يوسف (المسلم ابن المسيحية) رجلها الصالح لتحقيق هذا الحلم، شاء أم أبى. الحديث عن أزمة التصنيف الديني لا تكتمل من دون الحديث عن الديانات السماوية الثلاث، فهم –وفق صيغة أحدثهم – رسالة واحدة ممتدة، كما أن مصطلح "السماوية" يعني عند الكثيرين "الإلزام"، ومن عند نقطة الإلزام تبدأ كل المشاكل.

ـ إلي أي مدي أرهقتك شخصية "راحيل" خاصة وأنها هي الأخرى تتنازعها هوياتها القاتلة؟
إذا جاز أن نصف عملية البحث والقراءة والنبش في الكتب إرهاقًا، فقد كانت شخصية راحيل الأشد إرهاقًا لي، فهي شخصية شديدة التعقيد في تركيبتها النفسية، لكنها امتلكت وعياً أحدّ من وعي يوسف، وهو ما أنقذها من الوقوع في براثن المرض النفسي، لكنها في المقابل انتقلت إلى مساحة غريبة من الجرأة في تكسير التابوهات بلا استثناءات، متحصنة بدراسة أكاديمية ورؤية فكرية واضحة وقناعة حادة ممسوسة بمرارة التجربة إلى حد أنها هي الأخرى اقتربت بقناعتها من مربع التصنيف المخيف الذي يرى كل ما هو خارجه غير صحيح، وهو تأسيس يناسب ما أقدمت عليه في الرواية.

لماذا كان يوسف بتلك الهشاشة رغم قوة وجلد أبويه؟ ونجاحهما في تحدي محاذير المجتمع خاصة الدينية؟
الناس يعيشون معلقين في بطاقات تصنيفية كالبضائع، يوسف اختار أن يعتزل هذا العالم، هل هذه هشاشة؟ الهشاشة أن يضطر الإنسان للتعايش مع العالم على عكس قناعاته، فيضطر إلى اختيار بطاقة تصنيفية يعيش متواريًا خلفها، أو أن يعيش كما يريد ويورط الآخرين (الأبناء) في مشكلاته، وهو ما فعله والدا يوسف، وفي رأيي إن ما فعله يوسف هو الحل الفني الوحيد لإدانة العالم والخروج منه سليماً، إنه أمر يُشبه الاستقالة المسببة: أترككم حتى لا أتحول إلى شبيه لكم، ولكنني أترك للعالم شهادتي عليكم.

لماذا جعلت يوسف يستسلم ويتقوقع داخل ماضيه؟
يوسف لم يستسلم بل قام بدوره، شهد بأمانة على العالم الذي يرفضه، ثم انسحب منه، اختار لنفسه ما وصفه هو في روايته بـ"الصمت المقيم"، وشخصه الطب بحالة "الجامودية" التي تصيب مريض الفصام في مراحله المتأخرة.

هل"التابو" الديني جزء من الأزمة المطبقة علي العالم العربي وخاصة مصر؟
التابو في أصل الكلمة مرتبط بالأمر المقدس المرتبط بلعنة أو نائبة تنزل بمن يمسه، المساس هنا قد يكون مادياً أو معنوياً، واللعنة أو النائبة كذلك قد تكون معنوية –عقاب الرب أو السلطة الغيبية- وقد تكون مادية بمعنى أن هناك من منح نفسه صلاحية عقاب الآخرين عند مساسهم بالتابو أين تكمن المشكلة؟ المشكلة ليست في التابو، طالما ظل الأمر محصوراً في المساحة العقدية أو الإيمانية، ولكنها تبدأ عندما تتجاوز ذلك فتمنح سلطةٌ ما نفسَها صلاحية العقاب على أمرٍ ما، مع منحه قداسة -خارج التراضي المجتمعي (كشرط رئيسي). بعض قوانين المجتمعات تبدو لمجتمعات أخرى عجيبة وغير مبررة، لكن بما أن المجتمع تواضع عليها وأقرها وساوى بين الجميع أمامها، فإنها تصبح عادلة. وعليه فإنه من حق كل مجتمع أن يضع قانوناً -بقبول الناس- يمنع إساءة شخص مثلًا لمعتقدات الآخرين، ولكن من الخطير أن تضع قانونًا يمنع إساءة شخص لدين بعينه بينما تسمح بإساءة بقية الأديان. في الرواية عندما يسأل يوسف جورج " لماذا تتلصص هكذا دائماً؟" يجيبه "لأن المجتمع الذي يسمي ما يفعله منذر ورفاقه دعوةً وعملاً خيرياً، يسمي ما نقوم به تنصيراً!"، هنا تبدأ التصنيفات والتحصينات ويمرض الإنسان ولا يجد له مكاناً مثلما حدث ليوسف حسين.