الأحد 6 نوفمبر 2016 / 21:33

القراءة وقانونها التحدي الحقيقي للسعادة كما يراها محمد بن راشد

لم يصدر القانون الوطني للقراءة عن أي مخاوف، ولم يضيّق واسعاً  بخصوص القراءة ونوعيتها، ولم يحاصر الكتاب ويحدد ما يقرأ وما لا يقرأ كما تفعل لغة الينبغيات التي برع العالم العربي في استخدامها، بل أكد الانفتاح على اهتمامات القراء ورغباتهم دون تفضيل أو تبخيس ولا مصادرة أو توجيه. ولنتأمل كلمة "الاهتمام" الواردة في القانون، فبقدر ما تعبر عن جوهر أصيل في عملية القراءة، فإنها في الوقت نفسه تصدر عن توجه فردي سيكولوجي حول موضوع بعينه يتماس تماسا مباشرا مع مخيلة الفرد واهتمامه، على نحو لا يتعارض مع الأنظمة القانونية كقانون التمييز والإرهاب، فالشعارات الدينية، التي رفعها أحدهم ذات يوم ليدغدغ بها المجتمع، ليست سوى وسيلة إيديولوجية مكشوفة تحاول فرض الوصاية على رغبات الناس واهتماماتهم لا أكثر وتجسد الذوق القاصر الذي يريد أمثال هؤلاء فرضه على القارئ، فالقراءة لا تقنن ولا تقوم على مخاوف أصحاب الأجندات المصطنعة، الذين يريدون تحريم المعرفة وتجريمها ومحاصرتها.

‎تجاوز قانون القراءة في استخدامه هذا المصطلح إذن دعوات الرقابة الذوقية المعبأة بحمولة زائفة، ووهم معرفي وهي دعوات لا تصمد أمام المنطق ولا العقل، فهؤلاء الذين يريدون منع كتاب بحجة خدشه للذوق العام ، عليهم أولا أن يمنعوا آلاف الكتب التراثية لما تنطوي عليه من تحيزات واضحة ضد المرأة أو الأقليات أو الأعراق، ولن يستطيعوا فالأفكار لها أجنحة تعود بها إلى أصحابها كما قال ابن رشد قبل ما يناهز الألف العام، وهي مقولة تصور تصويرا باذخا أن الرقابة وإن بدت صارمة فإنها لا تستطيع أن توقف طيران الفكرة وسفرها وانتقالها من فضاء إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، فهي تتخذ طريقها الصحيح المعبد وغير المعبد حتى تصل إلى قرائها رغم تخرصات أولئك الذين يريدون أن يقع الفكر في ظلاميّة ليلها كنهارها.

‎وهنا نذّكر بأن قانون القراءة ليس الأول من نوعه على المستوى العالمي فحسب، بل إنه يحتل مكان الصدارة في تاريخ القوانين الإماراتية شكلاً ومضموناً، لأنّ صياغته تجعله فريدا وتوجب على المؤسسات الاقتداء به، ولعل المجلس الوطني الاتحادي، الذي نبارك له دور الانعقاد الجديد اليوم، هو من أوائل المؤسسات، لأن هذا القانون يمثل نقله نوعية في طرائق صياغة الخطابات القانونية وأساليبها سواء في اشتباكها مع قوانين سابقة أو في تنسيقها مع جملة من القطاعات الإماراتية الأخرى كالصحي والاقتصادي والتعليمي والثقافي والاجتماعي والإعلامي، ويعبر عن تكامل واضح بين القطاعين العام والخاص وهو ما جعل نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم يشير إلى أن صياغة القانون قد جمعت نزعتين عالمية ومحلية، أي خبرة وتجربة عالمية قانونية انعكست وانعكس الإرث المحلي فيها، وما جاء في القانون من أطر تشريعية وبرامج تنفيذية ومسؤوليات حكومية محددة، تكسبه ميزة التفرد والجدية وتجعل حضوره لا من باب الترف بل من أبواب الضرورة المجتمعية والحكومية، فتتطلع إلى توجيه السياسات الحكومية إلى آفاق جديدة، أو تقودها إلى مأسسة الجهود كافة لترسيخ القراءة حسب ما أشار إليه رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان حفظه الله، والجهود هنا رسمية وشعبية، اعتبارية وفردية، عامة وخاصة، وبمعنى آخر فهو قانون يقوم على رؤية تضافرية تكاملية، يدعم فيه القطاع الخاص القطاع العام والعكس، ويتفاعل فيه كافة الأفراد باختلاف أعمارهم وفئاتهم وتوجهاتهم وتحدياتهم.

‎وبما أن القراءة قيمة حضارية وطاقة عظيمة فإنها قد جعلت الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم يرى إمكانية تحولها إلى مشروع حكومي متكامل، وهو ما يكسب القانون خصوصيته، لأنه يلزم الحكومة بالتدخل مبكراً لترسيخ القراءة حتى تعم منافعها لتشمل الإنسان منذ ولادته ونطقه الكلمات الأولى علاوة على احتضان القانون ذوي التحديات في القراءة والإعاقة الحركية ونزلاء المنشآت الإصلاحية والمستشفيات وكبار السن وربات المنازل.

‎وبما أن القانون يتميز بالانفتاح على كافة العناصر المشيدة لعملية القراءة وجميع أنواع القراء، وبما أنه في الوقت نفسه لا ينحاز لمفهوم معين للقراءة دون غيره، ويعززها بمختلف أنماطها كقراءة المتعة والقراءة الوظيفية والتعليمية والتحليلية والتخصصية والمهنية والإنتاجية والتطويرية والإلكترونية، مهيبا بالجهات الحكومية لخلق مشروع حكومي متكامل تنصهر فيه الجهود والخطط السنوية.

‎كذلك فإن القانون يستخدم أفعال الأمر والالتزام، من مثل "يتعيّن" "يلتزم" "يتوجّب" "تعمل على" "تَلتزم" "تتولى" "تُلزم" "تعمل" "لا يجوز" "يقوم" "يعتمد" في إطار الحديث عن مهمات الدولة ، مما يعني أن الإمارات تدرك حجم التحديات التي تواجه القراءة وتهتك بها، وهي متبصرة بالوضع المزري لنسب القراءة في العالم العربي، وأن الأمر يقتضي إلزام الجهات بالعمل على تصحيح المسارات القرائية وترسيخها، وإلزام الموظفين الحكوميين بالقراءة وإلزام القطاع الخاص ببمارسة دوره، ومثل هذه النزعة الإلزامية الجادة المتبدية في القانون لا تصور المكانة التي تريد الإمارات أن تشيدها للقراءة لتكون ذات دور إيجابي راسخ ومنزلة عظيمة فحسب، وإنما تظهر بأنها ستضع الحلول وتطلق الطاقات تشريعاً وتنفيذا وتنسيقا ومبادرات ومشاريع، ورغم أن العمل على كل ذلك صعب ويقتضي تغييراً كبيراً في الأنظمة واللوائح وطبيعة عمل الموارد البشرية إلا أن التحدي ما زال قائما خاصة على مستوى تحقيق بنود القانون ومواده حتى ليبدو عند بعضهم مثاليا، لكننا جميعاً ندرك بأن رئيس مجلس الوزراء الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، لن يتوانى عن إبداع نموذج وطني للقراءة استراتيجي مؤثر ونموذجي برؤيته الحكيمة التي ستسفر عن خلق آليات عمل، تستنهض الهمم وتضع الحلول الناجعة، وتزيل كافة التحديات خاصة وأن مفهوم القراءة الحق عند الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هو ذلك الذي يقوم على التحدي، وما كان مشروعه "تحدي القراءة العربي" إلا تجلياً من تجليات تعزيز القراءة وترسيخها حتى في البيئات التي تعاني من تحديات اجتماعية واقتصادية وأمنية، بحيث تصير القراءة في أسفل أولوياتها، وقد لمسنا تنظيراً وتطبيقا، بأن البادرة استطاعت أن تتجاوز الرؤى القاصرة والعناصر المثبطة، وأن تحقق إنجازات نوعية وأرقاماً أعادت الاعتبار للقراءة ودورها حتى في المجتمعات المنهارة، لكن كل هذا لن يتحقق، دون تطوير المناهج الدراسية لتمكين الطلبة من تطوير قدراتهم اللغوية وإلزام كافة المنشآت التعليمية بتوفير مكتبات تتناسب مع احتياجات الطلبة واهتماماتهم كما نص القانون حرفياً.

‎ولعل المطلع على القانون سيظل يطرح أسئلة من مثل: كيف يمكن مأسسة الجهود والعمل الحكومي لتعزيز القراءة، وما الآليات التي ستقود إلى التكامل بين القطاعات وبقية القوانين المتصلة بالثقافة والتعليم وحقوق الملكية الفردية والنشر والمطبوعات، وأين يكمن أوجه التعاون بينها، وأين تتوقف المبادرة ومتى تبدأ في صيغة مشتركة، وما طبيعة الخطط السنوية التنفيذية المراد التأسيس لها، وكيف ستتابع وتراجع، وما المقاييس المتبعة في اختيار المواد للحقائب المعرفية الثلاث التي ستغطي احتياجات الطفل من مرحلة الرضاعة وحتى الرابعة من العمر، ثم هل العمل التطوعي مستعد للانخراط في هذه التجربة الفريدة التي تنوي دولة الإمارات المضي فيها خلال السنة المقبلة، وهل بالإمكان إلزام المقاهي بتوفير مواد للقراءة لمرتاديها، وما طبيعتها، وهل يمكن أن تطور مثل هذه المنهجية لتقوم المقاهي بدور المساعد في توزيع الكتب، وهل تدخل محطات البترول في الدولة أيضا لتعزز هذا المنحى.؟

‎لعلنا لن نجانب الصواب إن قلنا بأن القراءة تحتاج إلى تعزيز الوعي بقيمتها ودورها، وذلك لن يتحقق دون ترسيخ احترام الكتاب، على الأقل بين الطلبة، وقد صار بعضهم يقدم نموذجاً سيئاً في عدم صونه للكتاب، بل يمعن في إتلافه وتمزيقه بمجرد أن ينتهي الفصل الدراسي، ولقد شاهدنا سابقا، المئات من الكتب الملقاة في ردهات الجامعة وممراتها وساحاتها، في مشهد يبعث على الألم، وحسنا فعل القانون عندما أدان مثل هذا الصنيع، وأكد قيمة المحافظة على الكتاب والتبرع به بدل إتلافه، ومثل ذلك يقتضي أيضاً، كما أكد القانون إلزام المدارس والجامعات بتطوير مكتباتها وتشجيع القراءة بين الطلبة عبر خطط سنوية تضعها كافة المؤسسات التعليمية، فهل مؤسساتنا مستعدة لهذا التحول؟ وماذا ستفعل إدارات الموارد البشرية سواء الاتحادية منها والمحلية مع موظفيها الذين صار لهم الحق اليوم في القراءة التخصصية ضمن ساعات العمل الرسمية بعد أن عد القانون القراءة شرطا لتطوير الأداء وتحسين الإنتاجية؟

‎وهذا كله يقتضي من جميع الجهات الحكومية تأسيس ركن في مقرها مبتكر، تنتقي فيه المواد انتقاء دقيقا بحيث تعزز القراءة من رؤيتها وأهدافها وتطور إنتاجيتها، أم أنها ستكتفي بما أكده القانون بضرورة العمل على مفهوم مبتكر للمكتبات العامة يدخل فيه القطاع الخاص على الاستثمار في هذا المجال.

‎ ولعل من المهم الإشارة هنا بأن القانون قد أحرز تحولا حقيقيا في بنية التعليم، خاصة عندما أعاد الاعتبار إلى أهمية تطوير القدرات اللغوية للأطفال في المراحل العمرية المبكرة وذوي التحديات في القراءة ونزلاء المنشآت الإصلاحية والمستشفيات وكبار السن وربات المنازل ووضع الآليات المناسبة لاستخدام المراكز الثقافية والملتقيات والمجالس في الأحياء السكنية ، فالقراءة ليست للناشئة والكبار، بل للمواليد الجدد والأطفال، وهو ما يطرح التساؤلات، فهل هناك في المكتبة العربية ما يمكن أن يساعد الأسر في تعزيز القراءة لهؤلاء المواليد الجدد في ظل نقص شديد في الكتب في العربية الخاصة بهم. وكل ذلك لن يجدي نفعا طالما لم يكن الإعلام له سبق الحضور، وعليه فإن القانون قد دعا إلى وضع سياسة إعلامية متكاملة للقراءة تلزم وسائل الإعلام العامة المرئية والسمعية والمقروءة بتخصيص برامج ومساحات محددة تتناسب مع فئات المجتمع، وليت القانون ألزم الجهات الحكومية بزيادة اشتراكها في الصحف المحلية دعما لها لتزيد من منسوب قرائها.

‎ولعل قانون القراءة الوطني، كما هو واضح، كان مدركاً بأن البادرات لا تستطيع وحدها أن تؤسس لمجتمع تتخذ فيه القراءة حضورها البهي، دون متابعة ومراجعة مستمرة، ولذلك أكد القانون ضرورة توفير مكتبات عامة تغطي جميع مناطق الدولة، وإعطاء الحوافز والتسهيلات والأراضي المناسبة للقطاع الخاص من أجل إنشاء المكتبات والعمل على تبني المعايير لتقييم مثل هذه المبادرات، سواء أكانت المكتبات في المقار التعليمية التي أضحت مكاتب أكثر من كونها مكتبات، وديكوراً أكثر من كونها داخلة في صلب العملية التعليمية، وحرص القانون عند تأسيس المكتبات على تزويدها بتقنيات لأرشفة الإنتاج الفكري تأتي على رأسها مكتبة أم، أطلق عليها المكتبة الوطنية، تقوم بإعداد قاعدة بيانات شاملة وموحدة للمكتبات العامة، فتثري محتواها باللغة العربية منتجة في ذلك الكتب الوطنية بجودة عالية، بعد خلق بيئة مناسبة لازدهار حركة البحث العلمي وصناعة الكتاب والنشر، وتدريب المرتبطين به، ولا تكتفي بالتأليف فقط، وإنما تعمل على نقل المعارف من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية. ولعلي لا أبالغ أن قلت إنّ الكتاب المترجم يشكل نقطة تحول، فكل النهضات والتحولات الثقافية الكبرى، اعتمدت الترجمة التي صنعت من خلال عمليات المثاقفة عمليات التحول الخلاق.

‎وبما أن القانون يعد بمثابة تحول جذري في تأسيس نموذج فريد للقراءة بدولة الإمارات فإن ذلك يحتاج إلى دعم الجهات المعنية والمجتمع ككل، وعلى هذا الأساس دعا القانون إلى إنشاء الصندوق الوطني للقراءة، لتوفير الدعم المالي للمبادرات المبتكرة التي من شأنها ترسيخ القراءة، ولهذا أكد القانون ضرورة وضع الخطط السنوية وبرامج لتطوير الطلبة والعاملين فيها، وربط كل ذلك بتخصيص شهر من كل عام للقراءة، دون إهمال لوجود خطة وطنية للقراءة، يتم متابعتها من الجهات الحكومية بعد أن توائم جميع الجهات الحكومية إستراتيجيتها بما يتناسب مع الخطة الوطنية هذه.

‎وحتى لا تبقى هذه البادرات العظيمة، حالمة ورومانسية، فإنها تقتضي تعاونا كبيرا من الجهات الحكومية الاتحادية ومبادرة أجرأ على المستوى الحكومي والمجتمعي، فالجرأة الممنهجة من صلب رؤية الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ولعل الجهات الحكومية المحلية مع الجهات الاتحادية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، على أن تنهض بدورها حتى تجعل هذا القانون مجسدا في الواقع المعاش بالبرامج النوعية والمشروعات الجديدة والمبادرات العالمية، التي ينبغي لها أن ترى النور قريباً، فالقانون بصورة وبأخرى، ليس إلا طموح مدروس، غير وسيغير طبيعة العمل الحكومي بأكمله، والمستقبل هو لأولئك الذين ينهضون بالمعرفة ليصنعوا منها اقتصادا صلبا، وكل ذلك لن يتحقق بعيدا عن الاستثمار في الإنسان، كما تؤكد القيادة في كل خطواتها ومبادراتها.

‎لقد صدر الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ,وهو يعتمد الميثاق الوطني للسعادة والايجابية عن التصور الذي يرى أنّ السعادة هي مفتاح الإنتاجية. وها هو اليوم يعزز ذلك من خلال القراءة التي تشكل ينبوع السعادة ومصدر الايجابية.فالقراءة مقاربة واعية للعالم وللذات وتفحص نوعي لمواطن القوة والضعف، وإدراك موضوعي لما يحيط بنا من تحديات ينبغي أن نحولها إلى فرص.وبقدر ما أصدر عنه من إعجاب وإيمان بهذه المبادرات الخلاقة، فإنني أعي أنّ علينا أن نظل على أهبة الاستعداد لمواكبة خطى سموه، لأنه تحرر من بيروقراطية العمل وسار نحو الإبداع الخلاق.