الإثنين 21 نوفمبر 2016 / 17:45

الترجمة في الوقت بدل الضائع

مكتبتنا العربية متأخرة جداً في إبداع كتب علمية تضع نظريات إنسانية واجتماعية واقتصادية، وهي أكثر تأخراً في ترجمة الكتب العلمية من حولها، فهي مسؤولة بطريقة غير مباشرة عن تدهور حالة الأخ جمعة الفكرية طوال كل تلك السنين

في أحد قروبات الواتس أب التي دخلتها رغمًا عني، لأن الواتس أب لا يوفر حتى الآن خاصية رفض الانضمام للقروبات المُتسلقة والمتطفلة، أرسل صديقنا "جمعة"، وهو مثقف تم طرده وإعادته للقروب عشرات المرات بسبب أفكاره الحمقاء، تسجيلاً صوتياً مدته ٧ دقائق دفعني لتكريس نصف ساعة من يومي لكتابة هذا المقال، فقد استيقظ -حفظه الله- من غفوته العقلية في مساء ذلك اليوم، وصرخ فينا بأعلى صوته أن الجِنس هو المحرك الأول لجميع تحركاتنا ودوافعنا في هذا العالم المتدهور، فهو الذي يدفع الناس إلى البحث عن المال والشهرة والسلطة، مباشرة صفق له صديقه المولع بـ"حكايا الجنس الهابط".

هذا الكلام الذي ألقاه جمعة على مسامعنا هو ملخص نظرية الغريزة عند "سيجمويد فرويد"، والذي جعل "الليبيدو" هو المحرك الأساسي الذي يفسر سلوكياتنا كبشر ويتحكم في تصرفاتنا.

طبعاً لا نستطيع الطعن في فقه العلاّمة "فرويد"، فهو رائد علم النفس الحديث، وهو الذي وضع نظرية التحليل النفسي وهو أول من فسر الأحلام بطريقة منهجية علمية، لكن ما قد يجهله البعض، ومنهم جمعة، هو أنه ورغم مكانة فرويد العلمية المرموقة في علم النفس، إلا أن نظرياته قد أسقطتها نظريات أحدث وأكثر شمولية منها، فبعدما كان فرويد يختصر الغرائز في غريزة واحدة فقط وهي الجنس، والذي له قطبان أحدهما الحب الذي يشمل الجنس والبناء، والآخر الموت والذي يشمل الهدم والعدوان... صار علماء النفس اليوم يتحدثون عن غرائز متعددة أوصلها "مكدوجل" إلى ١٨ غريزة تتناسب مع فرادة الجنس البشري، ووضع بعضهم هرماً يُشكّل دوافع الإنسان بدءًا من الاحتياجات الفيزيولوجية كالأكل والشرب ومروراً بالاحتياجات الأمنية والاجتماعية والبحث عن الاحترام وتقدير الذات...

أخذنا نُحلل الخلل في المعلومة التي يحملها الكثيرون من أمثال الأخ جمعة، واختلف أهل الحل والعقد في "الوتس أب"، فمنهم من أرجع الأمر إلى إصابة الاستاذ جمعة بمرض العُصاب الذي يدفع صاحبه إلى توهم كون الجنس غاية في حد ذاته تحقق للمريض فحولة الذكورة، أو أنه قرأ من فرويد ما تناسب مع خبراته الشخصية التي قد تكون انحرافاً عن المعدل الطبيعي، ومنهم من نظر إلى مكتبته الخاصة التي لا تحتوي سوى على كتب الأستاذة "حكيمة" الُمتخصصة في الكتابة عن المؤامرات التي ابتلع نصفها مثلث برمودا، مثل الماسونية وفرسان مالطا والمعبد والرايات السود وبني العباس وتنبؤات نوسترداموس والأصابع الخفية الموجهة ضد الاستاذ جمعة وفقه الله...

بعد إجراء التحقيقات المكثفة، اكتشفنا أن الأستاذ جمعة لم يقرأ كتاباً في علم النفس منذ عشرين سنة حين وقعت الطبعة المسروقة السابعة لكتاب "التحليل النفسي" تحت يده، فظن أن هذه النظرية التي يُقارب عمرها المئة سنة مازالت سارية المفعول بسبب أنه قرأ كتاب فرويد بعد مئة عام من صدوره، وهو تماماً ما يحدث عندما يقوم أحد المتحمسين بتأليف كتاب (الأبضاع في نقد كتاب أصل الأنواع) وهو يريد هدم نظرية التطور، ولا يدري أن كتاب (أصل الأنواع) لداروين صار تاريخاً بعدما فتح الباب على مصراعيْه لمن أتى بعده لكي يطور من نظريته فصارت هناك داروينية جديدة مختلفة تماماً عن داروينية داروين مع أنها تنطلق من نفس الأسس التي وضعها في كتابه، ثم ألف علماء التطور مئات الكتب التي تدور حول هذه النظرية مثل "ستيفن جولد" و"ريتشارد دوكنز" و"دوجلاس فوتويما" و"هرمن كلاتش" و"دينيس بيكان" و"سيدريك جريمو" وغيرهم مما لا يمكن إحصاءهم الآن، فلا يمكن نقض نظرية ما إلا بعد التأكد أن هذه النظرية لا يزال يُعمل بها في الأوساط العلمية أو أنه قد جرى تحديثها وتطويرها لدرجة أنها قد تحولت إلى نظرية أخرى.

مكتبتنا العربية متأخرة جداً في إبداع كتب علمية تضع نظريات إنسانية واجتماعية واقتصادية، وهي أكثر تأخراً في ترجمة الكتب العلمية من حولها، فهي مسؤولة بطريقة غير مباشرة عن تدهور حالة الأخ جمعة الفكرية طوال كل تلك السنين، ومع أن "جمعة" قد يكون شخصية وهمية إلا أنه موجود في كل ناحية من نواحي حياتنا... إنه يُمثل وضعنا المقلوب ونحن نحاول مواكبة العلم المُتغير باستمرار من حولنا.