الخميس 8 ديسمبر 2016 / 18:51

الأهرام بين يحيى حقي ومحمد حسنين هيكل

كان مصطفى لطفي المنفلوطي من كبار الأدباء في مطلع القرن الماضي، وكان يكتب مقالاته على صفحات جريدة المؤيد، وقد جمعها فيما بعد في كتابين يحمل كل منهما العنوان الثابت الذي كان ينشرها تحته، وهما النظرات والعبرات، ظلا لسنوات طويلة - بعد رحيله عام 1924 - يجتذبان الأجيال الشابة لقراءتهما حتى أدركهما جينياً في مراهقته، فشدته إليهما لغته الشاعرية الدافئة، المتخمة بالعواطف الإنسانية، حتى أنه - وهو الشيخ المعمم - كان يتغزل في القبلة، فاتخذنا من بعض عباراتها مصدراً لخطابات عاطفية كنا نكتبها لفتيات لا نعرفهن، إذ لم يكن شباب العرب قد عرفوا هذه التقليعة الأمريكية الوافدة من بلاد الكفرة!

وكان شغفى بقراءة مقالات المنفلوطي هو الذي قادني إلى البحث عن الكتب القديمة، التي نشرها كتاب ومفكرون من العرب المصريين وغير المصريين، وجمعوا بين دفتيها مقالاتهم الصحفية، سواء كانوا هم الذين فعلوا ذلك، أم فعله غيرهم في حياتهم أو بعد رحيلهم، ومن بينها مقالات أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد الذي كان ينشرها على صفحات جريدة الجريدة قبل الحرب العالمية الأولى، وقد جمعها تلميذه إسماعيل مظهر في ثلاثة كتب، يضم أولها مقالاته السياسية وهو بعنوان "صفحات مطوية من تاريخ الحركة الوطنية المصرية" ويضم الآخران- وهما يحملان عنواني المنتخبات والتأملات- مقالاته الفكرية والاجتماعية، وبذلك حفظ لنا إسماعيل مظهر جانباً مهماً من تراث الرجل الذي كان يوصف بأنه أستاذ الجيل ويحمل لقب أبو الليبرالية العربية.

ومن بين أشهر الكتب التي جمع فيها أصحابها مقالاتهم التي نشرتها الصحف، وصدرت في حياتهم، كتاب "وحي الرسالة" الذي جمع فيه "أحمد حسن الزيات" الافتتاحيات التي كان يكتبها أسبوعياً لمجلة "الرسالة" أشهر المجلات الثقافية العربية، في المرحلة ما بين بداية الثلاثينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، وهو يقع في عدة أجزاء، وكتاب "فيض الخاطر" الذي جمع فيه المفكر الراحل أحمد أمين المقالات التي نشرها على صفحات مجلة "الثقافة" التي أصدرها في الفترة نفسها، وهي افتتاحيات كانت تجمع بين القضايا الأدبية والفكرية والاجتماعية والدراسات التاريخية، وتشكل في مجموعها مصادر مهمة لتاريخ الفكر والأدب والثقافة في عصرها.

ولعل يحيى حقي أحد أهم الكُتاب والأدباء الذين لولا حرص بعض تلاميذهم على جمع ما كانوا يكتبونه على صفحات الصحف، ليبدد جانباً مهماً من تراث الفكر المصري والعربي، إذ تعود أن ينشر مقالاته في صحف صغيرة ومحدودة الانتشار، وفي بداية الستينيات اتصل به محمد حسنين هيكل، لكي يضمه إلى كوكبة كتاب الأهرام وبعد أسبوعين أو ثلاثة من نشر مقالاته على صفحاتها، خاطبه هيكل هاتفياً ليقول له، إنه لاحظ أنه ينشر مقالات أخرى على صفحات صحف صغيرة، وإن من تقاليد الأهرام أن تحتكر جهد الذين يكتبون لها، إذ لا يليق بها - وهي أكبر الصحف العربية وأوسعها انتشاراً - أن يجمع أحد كتابها بين الكتابة لها والكتابة لصحف أقل منها في المكانة والانتشار، وبرر يحيى حقي ذلك بقوله إن بينه وبين قرّاء هذه الصحف عيش وملح، وإنها احتفت بكتاباته، ولولاها لما تنبهت الأهرام لقيمة ما يكتب، وإنه لا يستطيع أن يتخلى عنها، لمجرد أن الله فتح عليه بالكتابة في أوسع الصحف انتشاراً، أما الأهرام فتصر على أن يختار بينها وبين أصدقاء الماضي، فهو يختار الذين أكل معهم "عيش وملح".

وكان مقدراً لهذا السبب أن تظل مئات المقالات التي نشرها يحيى حقي تائهة بين صفحات هذه الصحف الصغيرة، لولا أن تنبه إلى ذلك صديقه فؤاد دوارة الذي نهض بمهمة تجميعها وتصنيفها حسب موضوعاتها، ليسفر عن ذلك ما يقرب من ثلاثين كتاباً، في التاريخ والأدب والسينما والفنون التشكيلية والموسيقى، لكاتب نادر المثال، لا يعرف عنه معظم الناس سوى أنه مؤلف روايتي "قنديل أم هاشم" و"البلطجي" بعد أن تحولت كل منهما إلى فيلم سينمائي.

مشكلة تجميع المقالات التي نشرت في الصحف، أن بعضها يتطلب تدخلاً من الناشر، ليغرى القارئ المعاصر بقراءتها، ويعينه على فهمها، وربما لا يتطلب الأمر ذلك بالنسبة إلى الكتب التي تضم مقالات ذات طبيعة فكرية أو فلسفية، ومنها ما كتبه الزيات وأحمد أمين ويحيى حقي، أما الكتب التي تجمع مقالات سياسية، فهي تتطلب تعريفاً بالوقائع والأعلام وربما بعض المصطلحات التي تتناولها المقالات، والتي كان الكاتب يكتفي بالإساءة إليها، اعتماداً على أنه يعلق على حادث لا يزال حياً في ذاكرة قارئ المقال في الزمن الذى نشر فيه، في حين أنه قد لا يكون معروفاً، لدى القارئ المعاصر الذي يقرأ المقال نفسه بعد قرن أو نصف القرن من زمن نشره لأول مرة!

ذلك نقص لاحظته ف ستة مجلدات أصدرتها دار الكتب المصرية منذ سنوات تضم مقالات طه حسين التي لم يجمعها في كتب، ومن بينها كتاباته السياسية على صفحات الصحف، ومقالات عن قضايا التعليم، إذا خلت من أي جهد علمي لإضافة هوامش إلى النص، تساعد القارئ المعاصر، الذي يقرأ هذه المقالات بعد عقود من كتابتها قد تصل أحيانا إلى ما يقرب من القرن، على فهم الموضوع الذي كتب فيه طه حسين!

وهو نقص ما لاحظته أيضاً في المجلدين اللذين صدرا عن مركز الأهرام للنشر، وجمعت المقالات التي نشرها محمد حسنين هيكل تحت عنوان بصراحة بين عامي 1957 و1974، وهي مقالات يشير معظمها إلى أسماء أعلام ومصطلحات ووقائع تحتاج إلى إضافة هوامش للنص تعرّف بها، حتى يستطيع القارئ المعاصر أن يعيش في المناخ الذي كتب فيه المقال، كما يحتاج كل مجلد من هذه المجلدات إلى دراسة الموضوعات التى تناولها هيكل، خلال الفترة التي كتب فيها مقالاته وصلتها بالسياسة الناصرية خلال تلك الحقبة.. تلك مهمة تتطلب أن يتولى أحد المتخصصين مهمة المحرر ليشرف على إصدار الكتاب ويكتب هوامش ويتولى تعريف القارئ باتجاهات صاحبه.

وهى مهمة لا أظن أن الأهرام تعجز عن القيام بها، إذ لا يوجد في عيوب الناس عيب، مثل نقص القادرين على التمام!