(أرشيف)
(أرشيف)
الثلاثاء 17 يناير 2017 / 10:12

ماما كريمة

الوطن - معتز الدمرداش

لما طُلب مني أن أكتب هذه السطور بمناسبة عيد الأم لعام 2015، احترتُ جداً من أين أبدأ، وسبب الحيرة أن أمي هي كريمة مختار، هذه الأم المصرية التي يشاركني فيها الملايين من أبناء الشعب المصري وإخواننا وأشقائنا في الوطن العربي.

وجدتني أتذكر السؤال التقليدي الذي طالما أجبت عنه لمحبيها وعشاق فنها، سواء من زملاء العمل أو رواد المقهى، الذي أتردد عليه أو موظفي الجهة الحكومية التي أخلّص فيها أوراقي، أو عامل المصعد في أي فندق أو مؤسسة، أو حتى مضيفة الطيران حين تقابلني في الجو بابتسامة دافئة، متسائلة: "إزاي ماما كريمة عاملة إيه؟".

شعبية جارفة ومشاعر جياشة حقيقية وطلبات لا حصر لها لتوصيل "السلام لماما، أو لو ينفع نشوفها بس، ونبوس إيديها من غير ما نطوّل عليها".

وأكاد أسمع الكلام نفسه كل مرة عن وجه الشبه الإلهي بين ماما وأم أي شخص يقابلني في مكان ما أو في ظرف ما في الحياة اليومية، أغلب الظن أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين ملامح الشخصية الدرامية والواقع حين ينجح الفنان الموهوب في توصيل الإحساس للمتلقي، وهو ما نبغت فيه "ماما" بأدائها التلقائي القريب إلى القلوب رغم شهادتي المجروحة، وطبعاً الدراما في أحيان كثيرة تفرض وجودها على الموقف حين يتذكر الشخص أمه التي رحلت عن الدنيا ويشعر بأن ماما كريمة هي أقرب الناس إليه بعد أمه، ويجهش بالبكاء ويتركني في حيرة من أمري، كيف أتصرف مع هذه الدموع والمشاعر الإنسانية الحقيقية بعيداً عن دراما الستين حلقة التي يصنع أحداثها المهرة والموهوبون من كتّاب السيناريو، وتعرضها علينا الشاشات في ساعات ذروة المشاهدة.

ولما كانت منظومة القيم تنتقل للإنسان عادة من تراكم تجربة إنسانية طويلة يعيشها في سنوات تكوين الوجدان والشخصية وبصفة أساسية من تصرفات أبوَيه وطريقة التربية جوه البيت، مثلاً احترام قيمة العمل كان درساً تعلمته وأنا في سن المراهقة من ماما كريمة، فلم تكد تمر 48 ساعة فقط على وفاة والدها، حتى وقفت ماما على خشبة المسرح تجسد دور "زينب"، أم العيال في المسرحية الشهيرة "العيال كبرت" وسط مجموعة من شياطين وبهلوانات الكوميديا الموهوبين: سعيد صالح، ويونس شلبي، وأحمد زكى، وحسن مصطفى، جمعت هذه الفنانة القديرة باختيارها (رغم إصرار المنتج سمير خفاجة على تمديد إجازتها حتى تخرج من حالة الحزن)، بين النقيضَين قمة الأداء الكوميدي الضاحك على خشبة المسرح، وقمة التراجيديا الإنسانية وحالة الحزن الدفينة التي أخفتها ببراعة ونكران الذات وراء هذه الشخصية الكتومة المتألمة لفقدان العزيز الغالي، والحريصة في الوقت ذاته على استمرار العرض المسرحي رأفة بالمنتج وحرصاً منها على وقف نزيف خسائر تعليق المسرحية.

كثيرة هي المواقف التي أحسست فيها بأن الخالق، سبحانه وتعالى، حباني بنعمة يحسدني عليها كثيرون، وهي وجود ماما كريمة في حياتي.
"يا بنى إياك والغرور، فمَن تواضع لله رفعه"، عبارة كررتها على مسامعي في سنوات الشباب والنجاح والظهور كإعلامي ومذيع تلفزيوني شاب في مصر وخارج حدود الوطن، من المواقف التي لا أنساها عندما بكت أمي بحرقة شديدة حين دق باب شقتنا في منيل الروضة ذات يوم في شتاء عام 1985 ليدخل عمال نقل شركة الشحن المكلفة بنقل محتوياتي إلى واشنطن العاصمة الأمريكية، لكي أبدأ مشواري المهني بعد تخرجي في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، واختياري للعمل مذيعاً في "صوت أمريكا"، ولما سألتها: لماذا البكاء بهذا الشكل؟ قالت: "ما كنتش فاكرة إن الحكاية جد".

عرفت ساعتها أن ماما كانت تعاني من فكرة ابتعاد ابنها الشاب المتفوق في الجامعة اللي عامل لها حس في البيت بكل مشكلاته وظروف مرحلته العمرية وقراره بأن يبتعد ويفارقها لأول مرة في حياتها ويروّح آخر الدنيا لمدة مفتوحة وغير محددة، بكت ماما كريمة من قلبها، وهي تتابع عمال الشحن وهم ينقلون آخر صندوق أفرغ غرفتي من محتواها، بكت كريمة مختار الأم هنا، ليس في حضرة فريد شوقي ولا محمود مرسي، أو مدبولي في فيلم "الحفيد"، ولا حسين كمال، أو نور الدمرداش، ملك الفيديو زوجها، وأبو أولادها، ولكن في حضرة لحظة أمومة حقيقية خانتها فيها الدموع لفراق ابنها وحبيبها وصديقها.