الناقد الفرنسي تزفيتان تودوروف.(أرشيف)
الناقد الفرنسي تزفيتان تودوروف.(أرشيف)
الخميس 19 يناير 2017 / 20:00

سرديات فتح أمريكا ومسألة الآخر

نحن بحاجة إلى الحوار مع أنفسنا قبل الحوار مع الآخر ، وبحاجة إلى تعميق مفهوم الشراكات الإنسانية والثقافية في العالم بعيدًا عن الهويات الضيقة التي تؤدلج كلّ إنسان فينا إلى جماعته الإنسانية المحدودة للدفاع عنها

شكّل الآخر ولايزالُ مجالاً لإشكاليات عدة منها السياسيّ والثقافيّ لارتباطه بمفهوم الهوية Identity، وهو مفهومٌ ملتبسٌ وعرضةُ لتأويلات عدة لدى الفلاسفة والمنظرين على اختلاف مرجعياتهم وخلفياتهم المعرفية؛ وكلّ واحد منهم يجذبه إلى منطقة اهتماماته."فتح أمريكا، مسألة الآخر" للناقد الفرنسيّ من أصل بلغاري تزفيتان تودوروف هو واحد من أبرز نتاجات هذا الناقد الفرنسيّ حاول فيه أن يفكّك قصة " فتح أمريكا" اعتمادًا على روايات الغالبين والمغلوبين في آن معًا من أجل فهم عملية الإزاحة والهيمنة وطمس الهوية التي حدثت للهنود الحمر، ومن هنا كانت عودة تودوروف إلى مئات من الوثائق المتضمنة مذكرات كريستوفر كولومبوس وكورتيس وشهادات شفاهية لهنود حمر وثَّقها بعض القساوسة الإسبان في كتاباتهم إلى جانب رسومات لبعض الفنانين وحفريات أركيولوجية لعلماء آثار ومنقبين.

وقف تودوروف عند استنطاق النصوص المكتوبة للكشف عن النسق المخبوء عند القاهرين والمقهورين ولتشريح كيفية الهيمنة من خلال استملاك اللغة. إنَّ أسباب تفوق إسبانيا في الهيمنة على العالم الجديد آنذاك لم تكن بسبب تفوق عسكري ولا عددي وإنَّما كان السبب أنَّ بعض حضارات العالم الجديد ومنها "الآزتيك" كانت منكفئة على نفسها بعيدًا عن التواصل مع الآخر؛ مكتفية بذاتها في حين كان الإسبان يهدفون إلى التواصل مع الآخر حتى لو كان هذا التواصل تواصلاً كولونياليًا عنيفًا يهدف إلى طمس هذا الآخر واستلاب هويته تمامًا كما فعلوا مع الهنود الحمر . لاينكر تودوروف التكرار في التاريخ ولكنه يرى إمكانية تجاوزه من خلال آليات المعرفة والإرادة، ومن خلال "التاريخ الأمثولة"، ولهذا يستنطق في هذا الكتاب المسكوت عنه كي لايتكرر. لقد أورد تودوروف في كتابه أنموذجًا دالاً على أمثولته العميقة عندما أورد حادثة امرأة من المايا قدَّمها الإسبان فريسة للكلاب لأنها رفضت أن تعطي جسدها لرجل آخر غير زوجها، والحل عند تودوروف يكمن ليس في تقديم امرأة إسبانية كي تكون فريسة للكلاب ، الحل عنده ليس من خلال الانتقام وإنَّما من خلال الحوار الحضاري الخلاَّق بين الشعوب لتقليص قضية الفوارق الكبرى التي تسبب الكراهيات التاريخية العميقة في عالم أصبح يئن من حروب هي إرث لتراكمات تاريخية وحساسيات كبرى منذ قرون.

اشتغل تودوروف في كتابه اشتغالاً عميقًا على النصوص فهو يرى أن كريستوفر كولومبوس في مذكراته يكشف عن قدر كبير من التأويل فقد استطاع السيطرة على شعوب الهنود الحمر بفعل فهمه لثقافتهم المهيمنة عليهم. فعلى سبيل المثال عندما حوصرت سفينته بعد تحطمها في جامايكا لمدة سبعة أشهر من قبل ما لايقل عن مليون هندي أحمر استطاع بعد فترة من الزمن السيطرة عليهم عندما هدَّدهم بأنه سيختطف القمر منهم. لقد كان كولومبوس ضليعًا بعلم الأنواء البحرية والتي ورثها عن عرب الأندلس ولذلك استملك لغة الآخر بما فيها ثقافته وهويته. لقد كانت المشكلة بالنسبة لهنود الأزتيك على سبيل المثال، أنَّ حضارتهم كانت تنبؤية وتأويلية خالصة فتقويمهم يتألف من ثلاثةَ عشرَ شهرًا تتألف مدة كل منها من عشرين يومًا ولكل يوم من هذه الأيام طابعه الخاص من الحسن الطالع أو السيء. ولذلك كان "كتاب المصائر " يحدد مستقبل المولود منذ ولادته ومستقبل حضارة الأزتيك بأكملها، ولذلك عندما أتى الأسبان بقيادة كولومبوس فرَّ ملك الأزتيك موكتيزوما كي لايراه الإسبان ، لأن في عرف الأزتيك الملك يجب ألا يراه أحد، وفي اعتقادات الأزتيك أن كائنات ستهبط عليهم من السماء وكانت تلك الكائنات هم الغزاة الإسبان! يقول تودوروف في كتابه" إنني أكتب هذا الكتاب سعيًا إلى التأكد إلى حد ما من ألا ننسى هذه القصة، وألف قصة مشابهة وردا على السؤال: كيف يجب التعامل مع الآخر؟".

لاشكَّ أنَّ إشكاليات التواصل الحضاريّ في عالمنا اليوم المليء بالصراعات العرقية والسياسية والثقافية هو مطلب ملح جدًا للابتعاد عن تلك التنميطات السلبية التي تختزل الآخر أيًا كان في نمطية مؤطرة سلفًا تُاس عليها الأحكام جميعها، نحن بحاجة إلى الحوار مع أنفسنا قبل الحوار مع الآخر ، وبحاجة إلى تعميق مفهوم الشراكات الإنسانية والثقافية في العالم بعيدًا عن الهويات الضيقة التي تؤدلج كلّ إنسان فينا إلى جماعته الإنسانية المحدودة للدفاع عنها ورواية مروياتها السيرية وتشكيل تاريخها الخاص بها، ،نحن بحاجة إلى شراكات كونية إلى تاريخ كونيّ يقفز على كل هذه المحددات العنصرية الضيقة في عالم يجب أن يؤمن بإخوة الإنسانية وبقيم التسامح بعيدًا عن الكراهيات والتعصبات التي تختزلنا في الثنائية الشهيرة الأنا في مقابل الآخر!