رجل الدين محمد العريفي.(أرشيف)
رجل الدين محمد العريفي.(أرشيف)
الأحد 22 يناير 2017 / 19:46

شرعية السُلطة في نظر رجال الدين

لديك جزء من الشعب لا يدري متى يسحبون بساط الشرعية من تحت قدم ولي الأمر، ويرون أنه لا سمع له أو طاعة، ولا يدري لم يفعلون ذلك، وكيف، ثم يخرجون عليه وعلى الدولة بأسرها

كتب رجل الدين محمد العريفي قبل سنوات في "تويتر" تغريدة كشفت خطأ اتخاذ مفهوم "ولي الأمر" بديلاً عن فكرة الدولة الوطنية، فرغم أن الجهاديين وإخوانهم الحركيين حين حملوا السلاح وشرّعوا حمله قبل عقود أزاحوا الغطاء عن الجسد الهزيل لذلك المفهوم، فقد كانت تغريدة العريفي فاضحة، باعتباره داعية من دعاة السمع والطاعة.

العريفي، وفي أثناء التظاهرات التي كانت تخرج في الكويت بُعيد "الربيع العربي"، كتب قائلاً: "أقول لمن ينكر على الكويتيين الأحرار: من خرج بسلاحه على إمام شرعي فيجب حواره قبل قتاله.. فكيف بمن يطالب سلمياً ضد إمام غير جامع لشروط الولاية؟".

ولأن العريفي ليس رجل دين من الدرجة العاشرة، فهو حاصل على الدكتوراه في أصول الدين، ودرس على يد أكابر رجالات الدين، فضلاً عن شهرته التي عمّت الآفاق بفضل الفضائيات، حتى صار ضيفاً على بعض الحكومات، أوقع بكلامه أصحاب الفكر الديني في حرج شديد، إذ اتضح أنهم في حالات الهدوء كالأسود يدافعون عن مفهوم ولي الأمر، وعند حدوث أقل اضطراب يهجمون كالضباع.

تدارك هؤلاء الأمر وتلقفوا ما قاله العريفي من خلال توجيه سهام النقد إلى شخصه، فبعضهم اعتبره مخطئاً، وبعضهم نسبه إلى فرقة الخوارج التي لا وجود لها إلا في كتب التاريخ، وبعضهم قال إن العريفي ظهر على حقيقته كسروري مستتر.. وهكذا استطاعوا صلب شخص العريفي على الخشبة ورميه بالحجارة، وضاعت كلماته الخطيرة وسط هتافاتهم.

ولأن العريفي لم يكن يهرف بما لا يعرف، إنما قال ذلك استناداً إلى عقيدة كل أصحاب التوجهات الدينية في مسألة ولي الأمر، وهو لم يقل ما يجهلونه، فمن المهم جداً مناقشة هذه القضية.

وفي البداية، ومن حيث نظرة الفرد لنفسه باعتباره مواطناً في بلد إسلامي، هناك نوعان من الأفراد: النوع الأول يعرّف نفسه، ويعرف حقوقه وواجباته، بموجب دستور البلاد، ولنطلق عليه اسم "المواطن الدستوري". أما النوع الثاني فهو يعرّف نفسه، ويعرف حقوقه وواجباته، على ضوء الشريعة الإسلامية، وليكن اسمه "المواطن الشرعي".

ولا يمنع هذا أن يعتبر المواطن الدستوري نفسه مواطناً شرعياً أيضاً، في حال كان مسلماً، لكن تبقى مواطنته الدستورية الأساس في هويته الوطنية، خصوصاً أن ولي الأمر كمسمى، أو كمفهوم، لا وجود له في الدستور، ولا تصدر تحت ظلّه القوانين.

ولا يمنع أيضاً أن يعتبر المواطن الشرعي نفسه مواطناً دستورياً، من جهة أن الدستور حائزٌ على قبول ولي الأمر، بمعنى أن احترامه للدستور نابعٌ من شعوره بواجب السمع والطاعة لولي الأمر، خصوصاً أن الدستور كمسمى، أو كمفهوم، لا وجود له في الشريعة، ولا يرد على لسان الفقهاء والدعاة.
وقد يسأل سائل: أين الإشكالية في أن يشعر المواطن بواجب الالتزام بالدستور والقوانين انطلاقاً من شعوره بواجب السمع والطاعة لرأس السُلطة الذي يعتبره ولياً للأمر؟! بل إن الصبغة الدينية على واجبه ذاك ــ والكلام للسائل ــ يعظّم ذلك الواجب في نفسه، وينعكس ذلك في التزامه أكثر من غيره بالدستور والقوانين؟!

حسناً، الإشكالات كثيرة، سأعرض لواحدة منها فيما تبقى من سطور هذا المقال، وهي شرعية السُلطة في نظر المواطن الشرعي، وفي رأيي أن هذه الإشكالية هي الأهم، وبقية الإشكالات التي سأتناول بإذن الله في مناسبات أخرى هي ثمرة ونتيجة هذه الإشكالية.

وشرعية السُلطة في نظر المواطن الشرعي تدور وجوداً وعدماً مع شرعية ولي الأمر نفسه، وأعتقد أن هذا الأمر بديهي ولا يحتاج إلى توضيح، إذ ولي الأمر يتربع على قمة السُلطة، وتستمد هذه السُلطة، بجميع تفرعاتها ومؤسساتها، شرعيتها من شرعية ولي الأمر.

والإشكالية أن مفهوم ولي الأمر لم يكن واضحاً حتى عند ظهوره الأول، لكن في ظلّ وجود دولة الخلافة كان يمكن تلمّس بعض معالم ذلك المفهوم، فكان ولي الأمر هو الشخص الذي يقوم بشؤون المسلمين في أمر دينهم، وجميع ما يؤدي إلى صلاحهم، لكن منذ إعلان موت الخلافة في عشرينيات القرن الماضي، وتأسيس الدول الوطنية، أصبح ذلك المفهوم أكثر غموضاً، لأن نظام الحكم الذي تأسّس المفهوم بناء عليه لم يعد موجوداً على الأرض.
ويثير هذا المفهوم المزيد من الالتباس من حوله بتعدد الآراء بشأن شروط شرعية ولي الأمر في زمننا الحاضر.. وربّ ولي أمر (سُلطات الدولة بالمفهوم الحديث) شرعيٌ في نظر رجل دين، وغير شرعي في نظر رجل دين آخر، وناقص الشرعية في نظر رجل دين ثالث. مع ملاحظة أن كل واحد من هؤلاء يمثل تياراً عريضاً، ولا يتحدث باسمه الشخصي، وثمة مواطنون شرعيون يسيرون خلفهم.

والعريفي في لحظة صدق مع الآراء الشرعية التي في رأسه اعتبر شرعية السُلطة في بلد خليجي ناقصة، لكن لحسن الحظ أنه بقي في مجال الثرثرة، على عكس بن لادن مثلاً الذي قال وفعل. وهكذا حتى مع المواطنين الشرعيين في بلد كمصر، فقد كان الظواهري يرى في شخص رئيس الجمهورية تجسيداً لفكرة ولي الأمر، وأن شرعية حكمه قائمة على هذا المفهوم، وبين ليلة وضحاها اعتبره ولي أمر غير شرعي، وارتدى سروالاً فضفاضاً وخرج من شقته مقاتلاً في سبيل الله.

وهكذا، لديك جزء من الشعب لا يدري متى يسحبون بساط الشرعية من تحت قدم ولي الأمر، ويرون أنه لا سمع له أو طاعة، ولا يدري لم يفعلون ذلك، وكيف، ثم يخرجون عليه وعلى الدولة بأسرها، أو يكتفون بأضعف الإيمان، أي بعصيانه في مسائل محددة، كالالتحاق بالجماعات الإرهابية.

وثمة فلسفة في الخروج على الدولة بأسرها عند نزع الشرعية عن ولي الأمر، فرجال الدين يطلقون صفة ولي الأمر حتى على شرطي المرور، إذ مفهوم ولي الأمر لا يقتصر عندهم على الحاكم، بل إلى كل من ولاه الحاكم أمر من الأمور، فالحاكم لا بد له من تفويض بعض سلطاته إلى آخرين يكونون تحت مسؤوليته، وكل واحد منهم يكون ولي الأمر في حدود تلك السلطات، فالمعلم ولي الأمر في شؤون التعليم، والمهندس ولي الأمر في شؤون البناء، والشرطي يكون ولي الأمر في شؤون ضبط حركة السير.. وهكذا.

وطاعة هؤلاء واجبة على من هم دونهم في ولايتهم، ما دام أن ولي الأمر (العام) هو الذي فوّضهم.. ومن ثم يمكن تصوّر ما الذي سيحدث حين تهتز شرعية ولي الأمر نفسه في نظر المواطن الشرعي، إذ تهتز معها شرعية كل من هم دونه في ولايته، المعلم والمهندس والشرطي والقاضي.. إلخ. يأمره الشرطي بأن يتجه يميناً فيتجه شمالاً، ويأمره المعلم بالسكوت فيقف على الطاولة وينشد، ويأمره المهندس بإزالة المخالفات فيقول له "مهندس على نفسك!"، فلا طاعة لهم بعد أن لم يعد لمن ولاهم طاعة.

وبطبيعة الحال المواطن الشرعي "الغلبان" لا يبتّ من عند نفسه في أيٍ من المسائل المذكورة، وإنما يعود فيها إلى رجل دين يطمئن إلى علمه، وهو الذي يضفي أو يسحب الشرعية أمامه عن السُلطة في بلده. ومع وجود المئات من رجال الدين المعتبرين، ووجود عشرات التوجهات والتيارات والمؤسسات والفعاليات الدينية، وادعاء كل طرف أنه على الحق وغيره على شفا حفرة من الضلال، لنا أن نتصوّر الوضع بين المواطنين الشرعيين.