الشاعر محمود درويش.(أرشيف)
الشاعر محمود درويش.(أرشيف)
الأحد 22 يناير 2017 / 19:50

الحرب والشعر الوطني

كان للشعر الجزل المخصص للمدائح نسخته الشعبيّة وكان للأدب الموّجه للأمراء ايضاً فرعه الشعبي وكان للموسيقى الشعبيّة في الأساس نسختها النقدية والوطنيّة

منذ أن بدأت السياسة تتحوّل الى شاغل عام وتحوّل المثقفون اليها، ولد الجمهور وولدت معه الفنون والآداب الجماهيرية، وصارت هذه من أدوات السياسة ومن أسلحتها. بعد أن كان الأدب والفن صناعة الحاشية صار مادة للتحريض والتعبئة وتوّجه خطابهما الى الحشد الذي كان لا يزال محدوداً، وانمّا تزايد بفعل الاستعراض والجدّة وجذب إليه الشعراء والموسيقيين والمغنين، بحيث تبدلّت المعايير وأصبح الجمهور حكماً وسعى المبدعون لإجتذابه بأيّ وسيلة.

لقد ولد الفنّ الجماهيري وستكون له بالتدريج مقوماته وعناصره. لا يمكننا أن نعمم وأن نقيس على نصّ واحد أو على أثر فريد. الواضح أن الطبعة الجماهيريّة عمّت كلّ الفنون بمختلف تفرعاتها و مستوياتها. كان للشعر الجزل المخصص للمدائح نسخته الشعبيّة وكان للأدب الموّجه للأمراء ايضاً فرعه الشعبي وكان للموسيقى الشعبيّة في الأساس نسختها النقدية والوطنيّة. لقد جدّت اأشياء واستحدثت بدون شكّ، لكن الأصول القديمة والتقليدية لم تزل تماماً لقد بقيت أطيافها حاضرة وايقاعاتها قائمة وإن تخفّت تحت الموضوعات الجديدة وتعصرنت بدون أن تهجر مثالاتها القديمة، وربما كانت هكذا سيرة التجديد الأولى كلها، اذ بدا أن جدّة الموضوع تستحقّ قوالب في متانة القوالب القديمة وفصاحتها.

قد يكون مهماً أن نتبيّن سمات هذا الفن الحائر بين الجدة والتقليد في فن واحد، هو ذلك الفن الذي تسمّى منذ بدايته ولا يزال (الشعر الوطني) وهذه تسمية مستغربة إذ تبدو الوطنيّة فيها امتيازاً لا نسبة عامّة، ثمّ إنّ الوطنيّة ليست من أغراض الأدب ولا خواصّه لتستحق أن يتسمّى بها نوع من الشعر أو أن تطلق على الأدب عامّة. الأرجح أن نكسة فلسطين التي باشرنا بها العصر الحديث انعكست من حينها على كلّ مفردات حياتنا، وعلى كلّ وجوهها، من السياسة الى الثقافة الى مرافق الحياة الأخرى. مع ذلك لم يعاصر أحمد شوقي ولا حافظ ابراهيم ولا خليل مطران ولا معروف الرصافي نكسة فلسطين. إنمّا لا يعني ذلك ان زمانهم كان خالياً مما صار فيما بعد الهاجس العربي الأكبر أو خلا من الهموم كلها. كان الإستعمار هو الهم الغالب، وكان هناك الإنقلاب التركي و دعوة أتاتورك الى التغريب وثورات الجزائر وليبيا و خطر عودة القسطنطينية الى اليونان. هموم إسلاميّة عربيّة أطلقت قريحة الشعراء العرب الذين كانوا إلى، هذه الدرجة او تلك، في ذاكرة الموروث الشعري فإلى أين اخذهم هذا الموروث.

تتصدّر (الحماسة )مختارات أبي تمام والبحتري، الحماسة هي الشعر الفروسي الحربي، و لم تكن لتتصدّر لولا مكانتها في الشعر العربي. قد يصح القول أنها اول أبوابه وأنها أساسه.. لابد أن الغزو كان وراء هذه المخيّلة البطوليّة التي تتجاوز الواقع وتستبدله بالفن. لم يكن الشعر الوطني، لدى انبلاجه يبني على تراث شعري غير الحماسة. لقد أخذ عنها النفس الفروسي والبطولي والتهويل الحربي. كان هذا الشعر يحلّ الفخر بالأمة مكان الفخر بالقبيلة ويحلّ البطولة الجماعيّة محلّ البطولة الفرديّة ويحلّ التهويل الملحمي في دراما الصراع ويختار النموذج الحربي واللغة الحربيّة والمخيّلة الحربيّة لمبناه وتراكيبه.

كانت نكسة فلسطين هي الجرح الأول الذي أصاب العرب والهزيمة التي طعنتهم في اعتبارهم لذاتهم وافتخارهم بها. لقد تصاعدت صيحات الثأر والإنتقام والحرب وطغت على الحياة السياسيّة والأدبيّة. هذه المرّة لم تكن صيحات الحرب تهويليّة ولا تخييليّة، لقد سادت كلّ عالمنا وباتت محور حياتنا ولم تمنعنا الهزيمة الجديدة من الإصرار عليها والصياح بها في كل مناسبة وكل يوم. حلت حرب الشعب مكان حروب الدول، لكنّ الحرب هي الحرب ولغتها هي لغتها و تخييلها هو تخييلها. بني الشعر الحديث على صورة الحرب: العنف اللفظي والتهويل البطولي والنفس الإنتصاري والتخييل الملحمي. لقد بنى من جديد على الحماسة، لولا شعراء لم تغرهم الصيحات البطولية وآثروا عليها الصوت الفردي والخيبة ولا نسميهم كلهم إذا ذكرنا محمود درويش وغسان زقطان ومريد البرغوثي وزكريا محمد وسامر أبو هواش.