السبت 28 يناير 2017 / 20:24

شهر الكذب الحلال

هذا العنوان يوحي بفيلم أو مسلسل درامي، أو رواية مثيرة فيها من الخيال أكثر مما فيها من الواقع.

ولقد استوحيت هذا العنوان من مجريات الأحداث في أهم وأقوى دولة في العالم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه الدولة العظمى التي تهيمن على البر والبحر والفضاء، وجدت نفسها دولة عالم ثالث حيث الكذب المشروع الذي يستحق تخليده بعيد خاص به مثل عيد الهالوين والكثير من الأعياد التي نحتتها الشعوب واستمتعت بها.

عيد الكذب في أمريكا له تقويم ثابت، هو الشهر الذي يسبق وصول أي مرشح أمريكي إلى سدة الرئاسة، في هذا الشهر مسموح الكذب ومحبب إغداق الوعود الخيالية، ومباح استخدام الكلمات البذيئة، ومطلوب اقتحام البيوت ونبش الأسرار وتعريض حياة المرشحين لسطو منظم من أجل التشهير وتحطيم السمعة والفرص.

لو راجعنا الانتخابات الامريكية الأخيرة وما قيل فيها لوجدنا مزاداً يوصف بكل المقاييس باللاأخلاقي، ولوجدنا رؤساء محتملين يعدون باتخاذ قرارات من شأنها تغيير الكون والمعادلات التي تحكم علاقاته.

ولا شك أن ظاهرة كهذه تدل على كثافة حجم الرعاع في أغنى بلد في العالم، فهم من صدقوا أن ترامب مثلاً سيسحب موازنة البيت الأبيض لينفقها عليهم، وهم من صدقوا أنه سيدمر حلف شمال الأطلسي لتوزيع إسهام الولايات المتحدة المالي عليهم، وهم من صدقوا بأن رئيسهم المفضل سيحجب دعمه للأمم المتحدة ليوجه المليارات التي تساهم أمريكا بها في موازنة هذه المؤسسة الدولية كي يوزعها على الفقراء والمحتاجين، كما صدقوا أن إلغاء التأمين الصحي الذي حققه أوباما واستفاد منه 20 مليون أمريكي، سيجعل أمريكا وبهمة الملياردير الفقير بلداً خالياً من الأمراض ولا حاجة لتأمين صحي فيه، كما صدقوا كذلك أنه سيقوض حلفه مع أوروبا وسائر الحلفاء التقليديين، ليتفرغ لتحسين أوضاع الأمريكيين داخل حدود بلادهم.

في شهر الكذب هذا كان الأمريكيون يستمتعون بوقائعه ومفارقاته وعجائبه وغرائبه، وكانت الابتسامات الساذجة ترتسم على وجوه الناخبين مع كل كذبة تتلى عليهم، ومع كل وعد لا مجال لتحقيقه حين يصبح الواعد رئيساً.

وإذا ما أردنا استكمال وصف هذا المشهد، فعلينا أن نراقب ما حدث بعد أن أنجز مهرجان الكذب هدفه الأول وهو إيصال الأكثر براعة إلى البيت الأبيض، فإننا نلاحظ تسامحاً من الذين تم الضحك على ذقونهم على هيئة إعجاب بالبراعة، فحين يفوز المرشح الذي صوت له أنصاره، فإن هؤلاء الأنصار على استعداد للاحتفاء والتصفيق مجددا حين يقول لهم الفائز، ما كان في الحملة شيء وما سيكون في المكتب البيضاوي شيءٌ آخر.

هذا لا يعني انتهاء الكذب بل استئنافه من موقع جديد وبأساليب جديدة، فالرئيس سيقول ما قاله في خطاب التتويج .."سأفعل كل ما وعدتكم به ، واعذروني اذا ما تأخرت عن الوفاء فلربما أتمكن من ذلك في الفترة الثانية من رئاستي التي بدأت حملتي من اجلها منذ هذه اللحظة".

المراقبون عن بعد ممن يدفعهم الفضول للتفرج على السباق الرئاسي وشهر الكذب، يخرجون من كل ذلك بخلاصة واحدة وهي أنه حين يستبد الشوق بالظفر بالرئاسة الأولى فلا فرق والحالة هذه بين من وصلوا القمر وبين اكثر دول العالم تخلفاً.

كنا نظن أن النظام الأمريكي هو الأرقى في العالم فإذا به لا يختلف في شهر الكذب عن أي نظام يقرر فيه شخص واحد مصير شعب وبلد، غير أن أمريكا تتميز عن غيرها بأنها ومع كل هذا العبث تقرر مصير كون بأسره.