باصات خضراء تنقل مدنيين ومقاتلين كانوا محاصرين في حلب الشرقية.(أرشيف)
باصات خضراء تنقل مدنيين ومقاتلين كانوا محاصرين في حلب الشرقية.(أرشيف)
الثلاثاء 31 يناير 2017 / 18:53

جدران اليميني والعنصري وترانسفير الديكتاتور

جدار الديكتاتور السوري، الذي عمَّر خمسين سنة، وهدم في ست سنوات جسور المجتمع السوري الذي كان مجتمعاً دون عقد اجتماعي على كل حال، سيكون الأصعب. ولن ينجح السوريون في هدم الجدار في المدى المنظور

جدار ترامب على حدود المكسيك الشمالية لا يزال مجرد أمر تنفيذي قد يعطي مفعولاً، أو لا يعطي، بينما أعطى الجدار الإسرائيلي المبني منذ سنوات في فلسطين كل مفاعيل الفصل العنصري، مضافاً إليها تعقيدات جديدة في العلاقة بين الفلسطيني والآخر العبري حسب فلسفة بناة الجدار من شارون إلى نتانياهو.

تضامن نتانياهو وتهنئته للرئيس الأمريكي ترامب على اتخاذ قرار بناء جدار مع المكسيك تعد واحدة من مفردات النفاق التي يلاحق فيها الأول الثاني، بعد خيبة أمل الإسرائيلي من ختام عهد أوباما بإحجام واشنطن عن رفع الفيتو في وجه قرار في مجلس الأمن يدين استمرار إسرائيل ببناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية.

أما جدران سوريا فلها شكل آخر. فبعد السجون والمعتقلات التي لا يمر فيها المعتقلون بمرحلة التقاضي في زمن "السلم الأهلي"، أتى الترحيل القسري من المناطق المحاصرة في زمن الحرب ليشكل جداراً ممتداً من العنف المؤسس على سنين من القمع والصمت. جدران كثيرة بناها الأسد الأب والإبن أمام السوريين، ليس الفقر وفقدان الأمل إلا مظهرها، بينما يقبع في العمق ابتلاع الديكتاتور للدولة والمجتمع وهدم الحيز العام للسوريين الذين ظلوا خائفين لأربعة عقود حتى من جدران بيوتهم المحروسة بخوفهم أكثر من أسطورة سطوة المخابرات المنشرين بينهم.

جديد جدران الديكتاتور هو الترانسفير المتنقل بين المناطق المحاصرة التي استنفدت فرص الصمود في وجه القصف بالبراميل المتفجرة، والجوع، وفقدان الأمل بوصول الدعم بعد سنوات من الحرب، فكان مصيرها الإفراغ من سكانها المدنيين، حتى ممن لم يتحولوا إلى مقاتلين، وبما يشبه عملية مزدوجة، من تطهير عرقي، وإحلال ديموغرافي، غير مسبوقة بهذا الشكل المعلن و"المبارك" من الأمم المتحدة. حدث هذا في حمص، وداريا، والمعضمية، ومضايا، والتل، وخان الشيح، وحلب، والآن وادي بردى، عبر الباصات الخضراء الشهيرة.

يميني أمريكا، والعنصري الصهيوني في إسرائيل، والديكتاتور السوري، هم ثلاثة وجوه في عالم يزداد فيه وجه العدالة قتامة، ينفذون رؤى مختلفة للمصلحة "القومية" لا تختلف عن قوانين السوق بأبشع معانيها، حيث تعلو تلك المصلحة على كل نصوص القوانين، والأعراف، بل وعلى بديهيات التكافل الإنساني العالمي التي لم تلحظها "قوانين" العولمة.

بناء الجدران المرئية، وغير المرئية، بالقانون، أو القوة الغشيمة، وبتلك السهولة، يفسر أمر ترحيب نتانياهو بجدار ترامب، والرعاية الروسية – الأمريكية للنظام الأسدي في دمشق، والتسامح معه خلال سنوات ممتدة من القتل. فهذا ليس من قبيل المصادفة، لأن العوالم الثلاثة هذه تعرف ما تفعل، ومن السذاجة التصديق أن لا مصلحة لإسرائيل وأمريكا في الإبقاء على الديكتاتور ضعيفاً. والأكثر سذاجة التصديق أن أمريكا لا تستطيع فعل شيء تجاه الدعم السياسي الروسي والصيني للديكتاتور، وتجاه تورط روسيا في الحرب معه على الأرض وفي السماء.

ولذلك لا يبدو جدار ترامب الأخير مفاجئاً للوعي البارد. فمنع رعايا سبع دول إسلامية (سوريا وإيران والعراق وليبيا والصومال والسودان واليمن) من دخول أمريكا هو قرار مسبوق، فالاتحاد الأوروبي اتفق مع تركيا في منتصف عام 2016 على بناء جدار أمني في البحر والبر في وجه اللاجئين (لا يشكل السوريون نسبة أكبر من 20% منهم).

كما أن دولاً كثيرة، عربية وإسلامية، وعالمثالثية، أصبحت تشترط على السوري الحصول على فيزا، ومنها ميانمار مثلاً.
لكن هذا لا يخفف من يمينية ترامب تجاه "الإرهابيين المسلمين"، بل يثبتها، أو من عنصرية إسرائيل تجاه الفلسطينيين عندما تستقبل لاجئين أفارقة للعمل فيها وإحلالهم محل العمال الفلسطينيين الذين كانوا مضطرين حتى للعمل في بناء الجدار الذي عزلهم عن فلسطينيي 1948، وقضم مساحات كبيرة من الضفة الغربية المحتلة منذ 1967.

لن ينجح جدار ترامب ضد المسلمين، وسيتم هدمه بدعاوى مخالفته للدستور الأمريكي الذي يُحرِّم التمييز بين الناس على أساس الدين، لكن جداره المكسيكي سيمضي، وسيكون، بينما سيحرص مهربو البشر والمخدرات على إيجاد حلول بديلة، أقلها حفر الأنفاق، أو التسلل من ثقوب الفساد على جانبي الجدار.

كما أن جدار الفصل العنصري في فلسطين لن يطول به الزمن كثيراً قبل هدمه من الداخل، بالسياسة والمفاوضات، أو بالمقاومة التي ستجد طرقاً لتجاوز ارتفاع تسعة أمتار، وبضع مئات من الكيلومترات.

أما جدار الديكتاتور السوري، الذي عمَّر خمسين سنة، وهدم في ست سنوات جسور المجتمع السوري الذي كان مجتمعاً دون عقد اجتماعي على كل حال، فسيكون الأصعب. ولن ينجح السوريون في هدم الجدار في المدى المنظور، حتى باستيراد دستور كتبه خبراء روس أمروا بالمعروف ونسيوا أنفسهم، وحتى بسحب كل أشكال الوجود المسلح من سوريا الموحدة، وحتى بعودة اللاجئين والنازحين، بل وحتى بإعادة بناء البنية التحتية للبلاد التي حرص الديكتاتور على تقسيمها إلى "مفيدة"، و"غير مفيدة"، مرسياً جداراً عنصرياً ندعي أنه لم يكن موجوداً خارج بنى السلطة الديكتاتورية، وخارج غياب التنمية المتوازنة، وخارج الجهل بالآخر في الحدود الطبيعية لهذا الجهل الموجود في كل زمان ومكان، وفي كل المجتمعات مهما صغرت، أو كبرت.