الفنان الفلسطيني محمد عساف (أرشيف)
الفنان الفلسطيني محمد عساف (أرشيف)
السبت 25 فبراير 2017 / 20:04

التعاطف القاتل

... وأقصد به تلك الظاهرة التي نشأت في الستينيات والسبعينيات، حيث كان التعاطف مع القضية الفلسطينية يمنح فيلماً رديئاً جائزة كبرى ولوحة ركيكة وأغنية عادية تصنيفاً متقدماً، كان لا ينظر آنذاك لأي عمل فلسطيني يقدم لمسابقة في أي مجال، إلا من زاوية سياسية يمنحها موقف الدولة وليس معايير الفن والإبداع.

وحين تكون الأمور على هذا النحو، فأي فيلم كان يوضع عليه ختم فلسطين فهو الفائز لا محالة، حتى إن شاباً نحيل الجسم متواضع العضلات، منح جائزة لمسابقة في كمال الاجسام لأنه رفع بيده اليمنى علم فلسطين وبيده اليسرى إشارة النصر.

أمر كهذا قتل الإبداع الحقيقي، ولم يُبق مجالاً لإنتاج مادة جديرة بالمنافسة، فما دامت الجائزة مضمونة برسم عدالة القضية الفلسطينية، فكل عمل مهما كان ضعيفاً لابد وأن يمر.

من أوائل التمردات على هذه القاعدة، عشته بنفسي وباركته حين كنت ممثلاً لفلسطين في موسكو، ولهذا حكاية تستحق أن تُروى خصوصاً ونحن نتابع مسابقة "أراب أيدول" القوية والمثيرة.

أبلغني وفد سينمائي فلسطيني بكارثة غير مسبوقة حلت بفيلم فلسطيني، ونُسبت الكارثة إلى مؤامرة صهيونية نفذها عضو في هيئة انتقاء الأفلام التي ستعرض في مهرجان موسكو الدولي، ولولا تدخلي آنذاك لأصدر السينمائيون بياناً اتهموا فيه الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية بالتآمر على الفيلم الفلسطيني وإبعاده عن العرض في المسابقة.

استخدمت وضعي كسفير لدى دولة صديقة، واتصلت بإدارة المهرجان، واستفسرت عن سبب استبعاد الفيلم الفلسطيني ، واحتراماً لفلسطين وسفيرها، أوفدت لجنة العرض مندوباً عنها لشرح الموقف لي.

استقبلت المبعوث السينمائي، وتحدثت معه أولاً بلغة الابن المدلل الذي لا يمكن أن يتفهم استبعاد فيلم فلسطيني في مهرجان يقام على أرض دولة صديقة، ويمكن وصفها بالحليفة. ابتسم المبعوث وشرح لي حكاية الاستبعاد من أولها إلى إخرها، مبتدئاً بتقديم معلومات عن مهرجانات موسكو السينمائية السابقة ومهرجان هذا العام، وقال لي: "قبل البرسترويكا كان الذي يرشح الأفلام ويحدد الجوائز هي اللجنة المركزية للحزب، وكان الهوى السياسي هو سيد الموقف في هذه الحالة أنتم تفوزون وكوبا تفوز وألمانيا الشرقية تتفوق ومؤسسة السينما السوفيتية تحصد الجوائز، أما الآن فقد تحررنا من سطوة الحزب وأسسنا هيئة قيادية للمهرجان على أن يكون منافساً لأهم المهرجانات في العالم، دعونا النجمة العالمية صوفيا لورين لتكون ضيفة الشرف الأولى في المهرجان، ورشحنا فيلم "الديكتاتور" لشارلي شابلن ليعرض لأول مرة، مع أنه أنتج قبل عقود، ووضعنا ضوابط صارمة لكل فيلم يعرض في المسابقة أو حتى خارج المسابقة، وأي فيلم لا تنطبق عليه الضوابط الفنية والإبداعية يستبعد حتى لو كان من إنتاج الكرملين، ولقد عُرض الفيلم الفلسطيني كغيره من الأفلام وتم استبعاده لعدم توفر الشروط الفنية التي تؤهله للعرض، وأقترح عليكم أن تستفيدوا من هذه الفرصة، فإما أن تقدموا فيلماً جديراً، وهذا أمر تستطيعونه، فلديكم سينمائيون محترفون نعرفهم، وحين تبلغون هذا المستوى فلن تطلبوا دعماً من الكرملين أو من الخارجية أو من لجنة التضامن لعرضه، بل الفيلم ذاته يقتحم المهرجان وقد يفوز".

طلبت منه أن يكتب لي اعتراضاته الفنية على الفيلم المستبعد، وقد فعل الرجل محبة منه لفلسطين ورغبة منه في أن يراها منافسة حقيقية في مجال الإبداع، وحين قرأت الاعتراضات وجدتها كفيلة بإلغاء مؤسسة السينما الفلسطينية التي أنتجت الفيلم المرفوض، فمنذ البداية حتى النهاية تمتلئ نصف الساعة بأخطاء يتبرأ منها علم السينما وحتى أكثر الأفلام بدائية، شكرت الرجل ومنذ ذلك الحين والسينما الفلسطينية خارج إطار الدعم السياسي تحصد جوائز وتتفوق.

خطرت ببالي هذه الحكاية وأنا أتابع البرنامج الجماهيري الأهم "أراب أيدول"، شعرت بامتنان لـ MBC، لأنها سلكت الطريق الصحيح في التعامل مع الفن الفلسطيني، محكمة الإبداع قبل وفوق السياسة، وحين صار الأمر كذلك، وُلد نجوم فلسطينيون حقيقيون، استقبلهم العالم بإعجاب بفعل الكفاءة وليس بغير ذلك.