حسن البنا مع أتباعه (أرشيف)
حسن البنا مع أتباعه (أرشيف)
السبت 25 فبراير 2017 / 20:13

خوارج اليوم.. النسخة الأسوأ

للوهلة الأولى تبدو المطابقة بين "الخوارج" في زمانهم الذي ولى و"الجماعات الإسلامية المتطرفة" المعاصرة أمر غير قابل للدحض، أو حتى النقد العميق. فهذه الجماعات، إذا نظرنا في عجالة إلى علاقتها بالنص والسلطة، تبدو ظاهرياً مجرد إعادة إنتاج، في سياق جديد، للخوارج أو "الشراة" أو "الجماعة المؤمنة"، كما كان يحلو لهم أن يطلقوا على أنفسهم، بوصفهم من اشتروا الآخرة بالدنيا، وأنهم المؤمنون دون غيرهم.

وإذا كانت المراجعة التي قام بها فقيه ومنظر القاعدة الأول سيد إمام عبد العزيز المعروف باسم الدكتور فضل، ومن قبلها تلك التي قام بها بعض قادة "الجماعة الإسلامية" في مصر، لأفكارهم وسلوكهم تنأى بهم، في نظر البعض، عن التماثل الجزئي مع الخوارج، بوصفهم أحد حركات الاحتجاج السياسي ـ الديني في التاريخ الإسلامي، فإن التعامل مع هذه المراجعة على أنها مجرد "تكتيك" وليس عدولاً عن المواقف والأفكار، أو أنها أمر يخص من قاموا بها فقط، وليس بمقدورهم أن يلزموا أتباع الجماعة الآخرين بشيء منها، يجعل المضاهاة بين الخوارج والتنظيمات الإسلامية المتطرفة، أمر قابل للنظر، ليس في الوقت الراهن فحسب، بل في المدى المنظور أيضاً.

وإذا أخذنا الحال المصرية نموذجاً، نجد أن أوجه الشبه تبدو كثيرة بين الفريقين، حيث التعامل الحرفي مع النص، الذي يعني تأويل النصوص من آيات قرآنية وأحاديث نبوية بظاهرها وليس بالمعاني الكامنة فيها والعلل البعيدة لها، وسياقها التاريخي الاجتماعي أو الموقف المحيط بها، وهو ما أسماه الفقهاء سبب نزول الآية. وهذا الوضع طالما أنتج لدى الطرفين سلوكيات تتنافر مع مواقف الجماعة، أو الأغلبية المسلمة، وطالما قاد في تاريخ المسلمين على مدار القرون التي خلت إلى ظاهرة الانشطار والانشقاق والتنوع، التي تدأ بالاختلاف وتصل إلى حد الصراع الدموي.
ويتماثل الجانبان، إلى حد كبير، في الاعتقاد بأن الأتباع هم "المؤمنون" أو على الأقل "المسلمون" وما عداهم غير ذلك، ومنازلة "أئمة الجور"، من وجهة نظرهم، بالسيف، واستخدام القوة في تطبيق "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، والسخرية من مواقف الخصوم وآرائهم. فحين أطلق خصوم "الخوارج" هذه التسمية عليهم، باعتبارهم خارجين على أئمة العدل، قبلوا هذا النعت وقالوا أنهم خارجون على أئمة الجور، وأنهم "الجماعة المؤمنة" القائمة على الجهاد في سبيل الله، بل بحثوا عن آية في القرآن الكريم يبرر تأويلهم لها موقفهم هذا فكانت الآية السادسة والأربعون من سورة "التوبة" التي يقول فيها الله سبحانه وتعالي: " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة .." .

أما أتباع التنظيمات والجماعات المتطرفة المعاصرة في مصر، التي ترفع من الإسلام شعاراً سياسياً لها، فلم يمتعضوا من نعتهم بالإرهاب، وقالوا شفاهة وكتابة إن "المؤمن يجب أن يكون إرهابياً"، لأنه "يرهب أعداء الله والمسلمين"، بحسب تفسيرهم الحرفي لنص الآية الكريمة: "وأعدوا لهم ما ستطعتم من قوة ومن رباط الخيل. ترهبون به عدو الله وعدوكم ..". وأطلقت بعض هذه الجماعات على نفسها أسماء شبيهة بما ذهب إليه الخوارج، فها هم أتباع شكري مصطفى المعروفون إعلاميا باسم "تنظيم التكفير والهجرة" يسمون جماعتهم "جماعة المؤمنين"، وها هم آخرون يطلقون على أنفسهم "الناجون من النار" أو حتى "الجماعة الإسلامية".

ومثل هذا الوضع انسحب على الحياة السياسية عند الخوارج وأتباع الجماعات الإسلامية المتطرفة في مصر، ثم التحق تنظيم الإخوان بهذا المسار بعد انزلاقه إلى العنف والإرهاب. فالخوارج أجابوا على التساؤل الجوهري في هذا المضمار وهو: هل حكام بني أمية الذين ارتكبوا الكبائر مؤمنون؟ أم كافرون؟ أم منافقون على الأقل؟. وكانت الإجابة هي الكفر البين، الذي انسحب من رموز الدولة إلى سائر من يخالف الخوارج الرأي والموقف. وأجاب أتباع الجماعات المتطرفة الراهنة في مصر على التساؤل نفسه بالإجابة عينها، استناداً إلى تأويل الآيات القرآنية الثلاث التي تضمنتها سورة "المائدة" والتي تنتهي جميعها بقول الله سبحانه وتعالى ".. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، ".. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" و".. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون". وترجع هذه الجماعات في مسألة التكفير إلى أفكار ابن تيمية التي ارتبطت بسياق تاريخي بررها إلى حد كبير، إذ أطلقها ضد حكام الدويلات الذين تواطؤ مع التتار أثناء اجتياحهم العسكري لأرض الخلافة الإسلامية.

كما يتشابه الفريقان في ظاهرة "التفتت" أو "الانشطار"، فالخوارج بلغوا، في رحلتهم التاريخية الطويلة، نحو سبع وعشرين فرقة، والجماعات الراهنة تشهد دوما انشقاقات كبيرة وهامشية وولادة تنظيمات جديدة. وهذه الانشقاقات وذلك التعدد قام، حسبما سبقت الإشارة، على اختلاف في الفروع، وإن كان هناك اتفاق في الأصول.

وقد امتد هذا التشابه إلى ما يرتبط بتواجد "جماعات كبيرة" وأخرى "هامشية" أو صغيرة داخل الفصيل أو الاتجاه الواحد. فالخوارج رغم كثرة فرقهم فإن حركتهم انتظمت أساسا في أربع فرق رئيسية هي، "الأزارقة" ، نسبة إلى إمامهم نافع بن الأزرق، و"النجدات" حسب اسم إمامهم وهو نجدة بن عامر الحنفي، و"الأباضية" وهم أتباع عبد الله بن أباض، و"الصفرية"، وإمامهم زياد الأصفر. وقد اندثرت هذه الفرق جميعها، وصارت جزءا من التاريخ السياسي ـ الاجتماعي للمسلمين، ولم تبق منها سوى "الأباضية"، التي يتركز أغلب أتباعها في سلطنة عمان وشرق أفريقيا وبعض بلدان المغرب العربي.

أما الجماعات الإسلامية المتطرفة في مصر الآن، فقد تدرجت من الجماعات الكبيرة، مثل "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد" إلى التنظيمات الهامشية الصغيرة أو النووية، مثل تنظيم "السمني" و"الأهرام" و"جهاد الساحل" و"الواثقون من النصر" و"الغرباء" و"تنظيم أحمد يوسف" و "الفرماويون" و"الناجون من النار" و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" و"التكفير الجديد" و"أبناء الصعيد" و"النذير" و"التوحيد"، و"الشوقيون"، و"جماعة الفتح" و"الخلافة" و"جنود الرحمن" و"العصبة الهاشمية" و"مجموعة التسعين"، و"القصاص العادل"، و"القرآنيون" و"الجهاد الصحيح"، و"السماويون"، و"القطبيون". وبينما اندثر الكثير من هذه التنظيمات الهامشية، فإن "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد" لا تزالان هما الجماعتين الأهم، القادرتين على تغيير بعض تكتيكاتهما ومساراتهما، مثل المراجعة الراهنة للجماعة الإسلامية، وحالة الانكماش أو الكمون والتشتت التي يعيشها تنظيم الجهاد. وبعد ثورة يناير ظهرت مجموعات تكفيرية عدة، بعضها عبر عن نفسه بعد إسقاط حكم الإخوان في 3 يوليو 2013، وبلغ ذروته مع فرع داعش في سيناء الذي يسمى "انصار بيت المقدس".

لكن إمعان النظر في الطرح العقدي ـ السياسي للخوارج يقود إلى نتائج مغايرة، إذ يظهرون فيها في موضع من أتى بالسياسة إلى الدين، على النقيض من الجماعات الإسلامية المتطرفة المعاصرة التي أتت بالدين إلى السياسة. فالخوارج كانوا في مستهل حركتهم مجموعة من "القراء"، أي حفظة القرآن، وقبل ظهور الفقه والتأويل، كانوا هم بمنزلة علماء الأمة، واتسموا بالتنسك والزهد والتجرد والإخلاص لفهمهم الخاص للنص القرآني، وقد خرجوا على الإمام علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه حين قبل بالتحكيم في مواجهة معاوية بن إبي سفيان، واستمر خروجهم على الدولة الأموية حتى أرهقوها في ثورتهم المستمرة، إذ لم يتمكن الأمويون على مدار تسعين عاما من هزيمتهم سوى مرة واحدة في اثنتين وعشرين معركة دارت بين الجانبين. أما المنخرطون في صفوف الجماعات الإسلامية المتطرفة الراهنة فهم ممارسو سياسة من المنشأ حتى لو ارتدوا ثوب الدين.

ومن الصعب أن نطابق تماماً الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي تمارس العنف بالخوارج في قضايا مثل فلسفة الحكم ومكانة المرأة. فالخوارج كانوا أكثر تقدما وعدلا، وبدوا في هذا المضمار الأقرب إلى روح الإسلام، إذ رأوا أن الصلاح والصلاحية هما شرطا الإمامة، وليس النسب، ليتميزوا في ذلك عن فرق إسلامية شتى اشترطت النسب القرشي أو العربي في من يتولى خلافة المسلمين. وقد طبق الخوارج رؤيتهم هذه في الواقع، فلم يكن أي من أئمتهم الذين عقدت لهم البيعة قرشي النسب. ولم يقع الخوارج في أحابيل الثيوقراطية، على العكس من بعض الفرق الإسلامية التي عاصرتهم، والجماعات الإسلامية الراهنة، فالإمامة لديهم من "فروع" الدين، ومصدرها "الرأي"، وطريقها "البيعة"، وليس "النص" أو "التعيين". كما أجاز بعض الخوارج تولى المرأة منصب الخلافة، أو الإمامة العظمى، ليتقدموا هنا عن بعض مجتمعاتنا المسلمة المعاصرة بوجه عام خطوات كبيرة، وعن الجماعات الإسلامية المتطرفة خطوات أكبر.

ومقارنة بخطاب الجماعات الإسلامية المتطرفة الحالية، كان الجانب الاجتماعي أكثر وضوحاً في فكر الخوارج، فقد رفضوا تكديس الثروات، وناضلوا من أجل "الزكاة" و"الصدقات"، باعتبارهما "حق" وليس "منحة" أو "منة". وفي الوقت ذاته كان الخوارج أكثر إيمانا بقدرة الإنسان، بوصفه كائنا حرا ومسؤولا. أما "الجماعات الإسلامية" الراهنة فهي إن كانت قد اهتمت بالتطبيب الاجتماعي أو الشق التراحمي أو التكافلي في الشريعة الإسلامية على المستوى العملي من خلال سلوكيات خاصة بها، فقد استهدفت أساسا تجنيد الأنصار وتعبئة المجتمع حول أفكارهم السياسية أصلا، دون أن تكلف نفسها عناء التنظير للجانب الاجتماعي في الإسلام. فالكتاب المهم جدا للأستاذ سيد القطب الموسوم بـ"العدالة الاجتماعية في الإسلام" سرعان ما تم تجاوزه عملا، حين طغت المصالح السياسية عند هذه الجماعات على ما عداها، وهي مصالح ارتبطت أصلا بالوصول إلى السلطة بأي ثمن. ويمكن هنا أن نضرب مثلا على تراجع الاهتمام بالجانب الاجتماعي لدى الجماعات الإسلامية المعاصرة، من خلال تقييم "أداء التحالف الإسلامي في مجلس الشعب المصري خلال الفصل التشريعي الخامس. فقد لوحظ أن المسائل الاجتماعية توارت إلى الخلف لحساب الاهتمام بقضايا سياسية في مقدمتها تطبيق الشريعة الإسلامية، والقضايا الأمنية.

وهناك من يرى افتراقاً بين الجماعات الإسلامية المتطرفة الراهنة والخوارج من حيث السياق الذي ولدت فيه، وماهية تصورها للعدو الذي تنازله. فالخوارج، حاربوا في البداية، إماما عادلا ورعا لم يحد عن مبادئ الدين ليكسب السياسة وهو علي بن أبي طالب، ولم تكن هناك ظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية وراء معارضتهم، وتوسلهم السيف طريقا للتغيير. أما المتطرفون الإسلاميون اليوم يبدون، بوصفهم ظاهرة اجتماعية ـ سياسية، صناعة لظروف قاهرة، حيث الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي المتمظهر في الفقر وإهدار الثروة والفساد والنهب المتعمد المنظم لمقدرات الشعوب، وخلل القيم، والشعور بالمهانة في مواجهة "الآخر" الغربي. وهذه الظروف، تفسر وتغذي، مسلكهم في التطرف، بل تبرره، من وجهة نظرهم.

لكن هذه النظرة قاصرة ومتعجلة لأنها لا تأخذ في الاعتبار أمرين الأول هو أن الأفكار الرجعية والمتطرفة التي تعتنقها هذه الجماعات هي التي تدفعها إلى اتخاذ مواقفها الحادة وأقضاها التفكير والاستحلال ورفع السلاح، وثاقيها أن هذه الجماعات لا تقدم تصورا ملموسا للتغيير، يقوم على العدل والكفاية والحرية والإنجاز، يكافئ حتى بعض ما قدمه الخوارج، قياسا إلى عصرهم.