الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يلقي كلمته الأولى أمام الكونغرس أمس.(إنترنت)
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يلقي كلمته الأولى أمام الكونغرس أمس.(إنترنت)
الأربعاء 1 مارس 2017 / 20:07

صورة السلطة والسياسة

ذا قامت الفلسفة الضمنيّة للأوباميّة على أولويّة "القوّة الناعمة"، وعلى رأسها الديبلوماسيّة، فإنّ الفلسفة الضمنيّة للترامبيّة إنّما تقوم على أولويّة "القوّة الخشنة"

في خطابه الأوّل إلى الكونغرس، بدا الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب أهدأ وأكثر ميلاً إلى التصالح والتسويات. وقد فُسّر اعتداله المستجدّ هذا على أنّه محاولة للالتفاف على الهبوط السريع الذي بدأت تعانيه شعبيّته.

على أنّ معظم المعلّقين الذين عقّبوا على الخطاب إنّما قرنوا قراءتهم له بملاحظتين: فترامب، من جهة، يمكن أن يقول أيّ شيء ثمّ يقول نقيضه، وهذا ما يقلّل أهميّة التعويل على ما يقول. أمّا من جهة أخرى، وحتّى لو حُملت أقواله على محمل الجدّ، فإنّها تبقى في غاية العموميّة بحيث لا تترتّب عليها سياسة أو برامج متماسكة.

لكنْ قبل يومين على خطابه المذكور، بدا ترامب صريحاً جدّاً وواضحاً جدّاً، بل متماسكاً جدّاً قياساً بالموقع الذي يصدر عنه. لقد جاء هذا إبّان شرحه للسياسة الدفاعيّة التي سيحاول حمل الكونغرس على إقرارها. ذاك أنّ المطلوب، وفقاً للرئيس الأميركيّ الجديد، زيادة الإنفاق على الدبّابات والسفن الحربيّة وأنظمة السلاح بما قيمته 54 بليون دولار. وأرهب ما في الأمر أنّ الولايات المتّحدة اليوم (أي قبل خطّة ترامب الجديدة) تنفق على الدفاع والتسلّح أكثر ممّا تنفقه الدول الثماني التي تليها في الإنفاق مجتمعةً. أمّا تمويل هذه الزيادة المقترحة فيأتي من التوفير على جبهة الخدمات والحماية البيئويّة، كما من التوفير الموازي في الإنفاق على الديبلوماسيّة والمعونات الأجنبيّة.

بمعنى آخر، إذا قامت الفلسفة الضمنيّة للأوباميّة على أولويّة "القوّة الناعمة"، وعلى رأسها الديبلوماسيّة، فإنّ الفلسفة الضمنيّة للترامبيّة إنّما تقوم على أولويّة "القوّة الخشنة". وردّاً على الوجهة التي انطلقت مع انتهاء الحرب الباردة (محاولات التخفيف من التسلّح للإنفاق على التنمية والبيئة والتطوير العلميّ ومكافحة الفقر والمرض)، يطلق ترامب وجهة معاكسة تماماً، مهجوسة بالقوّة وبالقوّة وحدها. بيد أنّ هذا النهج إنّما ينمّ عن تصوّر للسياسة ولفكرة السلطة بدائيّ جدّاً وإيديولوجيّ جدّاً في آن معاً. وقد سبق أن كُتب الكثير عن كبير إيديولوجييه ستيفان بانّون الذي لا يرى السياسات الدوليّة إلاّ بوصفها مؤسّسة على العداوة والتناحر. وبانّون هذا، كما بات معروفاً ومتداولاً، إنّما يكنّ إعجاباً منقطع النظير لقادة راديكاليّين في التاريخ يمتدّون من الزعيم البلشفيّ الروسيّ فلاديمير لينين إلى بعض منظّري الفاشيّة الأوروبيّة في الثلاثينات. وهو، إلى ذلك، ذو نظرة حربيّة وصراعيّة إلى التاريخ في عمومه، نظرةٍ تبدأ بـ "إسبارطة المقاتلة" التي يفضّلها، من دون أيّ تردّد أو تحفّظ، على "أثينا المفكّرة".

هنا ثمّة انتكاسة واضحة تعود بأمريكا وبالعالم من فكرة السلطة بوصفها تشمل الأفكار والخدمات والصداقات التي تبنيها الديبلوماسيّة، فضلاً عن القوّة، إلى فكرة السلطة كمجرّد معادل للقوّة البحتة.

أمّا ضحايا الانتكاسة هذه فكثيرون، أوّلهم فقراء أميركا بمن فيهم الذين صوّتوا لترامب، والذين سيكتشفون سريعاً أنّ تعاظم الإنفاق على السلاح والتسلّح سيكونون هم أوّل من يدفع أثمانه تقلّصاً في الخدمات والتقديمات الاجتماعيّة التي يحظون بها. وبالطبع سيكون بين الضحايا تطوير تقنيّات لمواجهة تحوّلات البيئة والحدّ من انعكاسها السلبيّ على السكّان، وكذلك تطوير العلوم والفنون عموماً. أمّا العالم، من أقصاه إلى أقصاه، فلا بدّ أن يتحوّل إلى مكان أقلّ أمناً وأشدّ خطراً بلا قياس، مكانٍ يتكاثر فيه السلاح إلى الحدّ الأقصى وتتضاءل فيه الديبلوماسيّة وبناء الصداقات إلى الحدّ الأدنى.