توماس غولدشتاين
توماس غولدشتاين
السبت 4 مارس 2017 / 20:06

في نقد المركزية الغربية

إلى جانب المتعصبين المعتقدين بصورة قطعية في صواب فكرة المركزية الأوروبية، هناك مقولات ناصعة في الغرب تؤكد قاعدة "الإرث البشري المشترك" في المعرفة، فهاهو توماس غولدشتاين يتحدث في خاتمة كتابه الأثير "المقدمات التاريخية للعلم الحديث: من الإغريق القدماء إلى عصر النهضة" عما يسميها "شجرة المعرفة"، التي نحيا تحت ظلالها الوارفة في الوقت الراهن، بفضل إسهام مختلف الحضارات الإنسانية والعقول البشرية، ويؤكد أن هناك افتراضا ضمنيا يبين أن العلم تطور بطريقة متسقة طوال التاريخ كله، لتبلغ مسيرته الصاعدة أعلى ذروة لها الآن، وليفتح المستقبل أفقا جديدا لمزيد من القمم الشامخة.

لكن هذا التصور المنصف في بنيته العامة ومقصده الرئيسي، ينطبق أكثر على "العلوم الطبيعية"، مع الأخذ في الاعتبار أنه ليس بوسع أحد أن يدعي حسما في هذا النوع من العلوم أيضا، أو ادعاء صارما بالكمال والاكتمال. وهنا يقول أينشتين في حديثه عن المحاولات التي تبحث عن كشف أسرار الطبيعة: "لا تزال القصة الغامضة الكبرى دون حل، بل إنه لا يمكن الجزم بوجود حل نهائي لها... لقد فسرت النظريات المبنية على التجربة كثيرا من الحقائق، ولكن لم يكتشف إلى الآن حل عام، يتفق مع جميع الأدلة المعروفة، وفي كثير من الأحيان بعد الاستزادة من القراءة يتضح فشل نظرية، كان يظن أنها كاملة كافية، وذلك لظهور حقائق جديدة تناقض النظرية أو يتعذر تفسيرها بها".

أما العلوم الإنسانية فإن استفادت من أي عطاء انصب على طرق التحليل والتناول والتصنيف والتبويب، ومحاولة الوصول إلى نتائج دقيقة، والتحقق من صدق المعلومات، لكنها احتفظت في كل مكان بالسمات الحضارية العامة، التي أثرت على مضمونها وشكلها معا. فطالما أننا في هذا الصنف من العلوم "ندرس السلوك الإنساني، فمن الضروري أن تكون الحالات الجزئية التي يبدأ منها التعميم هي أفراد الناس. ومهما كانت العينة التي نبدأ منها، متماثلة أو متشابهة في كثير من الخصائص العامة أو الكيفيات، إلا أن كل واحدة منها تختلف عن غيرها اختلافا جليا. ويستحيل أن يكون هناك تماثل كامل بين فرد وفرد آخر ينتميان إلى مجموعة معينة في سلوكهما، مهما كان التشابه بينهما، ومهما تعددت الصفات المشتركة بينهما.

وقياسا على هذا يوجد في الغرب علماء لا يؤمنون بأن هناك منهجا علميا أو إطارا معرفيا يصلح لكل الناس في وقت واحد وأمكنة مختلفة وثقافات متباينة، فهاهو عالم وفيلسوف بقامة توماس كون يؤكد أن رؤية الإنسان للعالم من حوله نتاج ثقافي اجتماعي موروث، ويؤمن بأنه لا يوجد "نموذج إرشادي" صالح لدراسة الظواهر الإنسانية في كل المجتمعات. ويبني كون هنا على ما خلفته قريحة عالم اللغويات إدوار سابير الذي انتهى إلى أن أنساق اللغة المضمرة في الأذهان هي التي تحدد رؤيتنا للعالم، وأننا نحلل الطبيعة وفق خطوط حددتها لنا لغاتنا الوطنية. وبالطبع فإن اللغة هنا لا تعني الكلام فقط، بل هي الإيماءات والإشارات والرموز والتفكير الصامت أو التمعن، وهذا يتأسس على الموروثات الثقافية والظروف الاجتماعية المعقدة.
وفي كتابهما "العلم في منظوره الجديد" يرى روبرت م. أغروس وجورج ن. سانسيو أن لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم، أي نظرة يفهم وفقا لها كل شيء ويقيم. والتصور السائد في حضارة ما هو الذي يحدد معالمها، ويشكل اللحمة بين عناصر معارفها، ويملي منهجيتها، ويوجه تربيتها. وهذا التصور يشكل إطار الاستزادة من المعرفة والمقياس الذي تقاس به. وتصورنا للعالم هو من الأهمية بحيث لا ندرك أن لدينا تصور ما إلا حين نواجه تصورا بديلا، إما بسفرنا إلى حضارة أخرى، وإما بإطلاعنا على أخبار العصور الغابرة، وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول.

والخلفية الحضارية أو الثقافية ـ الاجتماعية ليست هينة في تحديد الإطار العام للتفكير، وكما يقول كارل بوبر فإن المناقشة العقلانية والمثمرة مستحيلة ما لم يتقاسم المساهمون فيها إطارا مشتركا من الافتراضات الأساسية، أو على الأقل، ما لم يتفقوا على مثل هذا الإطار، لكي تسير المناقشة ... وهذا الإطار يبنني على المبادئ الرئيسية وليس مجرد بعض التوجهات التي قد تكون بالفعل شروطا أولية للمناقشة، من قبيل الرغبة في الوصول إلى الصدق، أو الاقتراب منه، أو الاستعداد للتشارك في المشاكل، أو تفهم أهداف ومشاكل آخرين سوانا.

فاختلاف السياقات والثقافات والخلفيات يفرض أمرين حيال العلم، الأول هو: القضاء على هذه الاختلافات تماما، أو تسويتها مؤقتا أو تنحيتها جانبا، ثم الاتفاق على مجموعة من المعايير والتصورات الموحدة لتساعدنا في حل الإشكاليات والإجابة الكافية الشافية على التساؤلات. أما الثاني فهو: تعدد الأطر المعرفية حسب تنوع بٌنى المجتمعات البشرية، واختلاف المشكلات التي تواجهها.

وبالطبع فإن تحقق الاحتمال الأول هو من ضروب المستحيل، إذ لا يمكن أبدا تنميط العالم برمته، أو جعله وحدة واحدة في طرائق العيش والتفكير وطبيعة المشكلات الحياتية وتذوق الفنون والآداب واختيار الأزياء ... الخ. أما الخيار الثاني فيحمل في باطنه قدرا كافيا من المنطقية تجعله قابلا للتحقق، في ضوء هذه الشروط:

1 ـ إن البحث عن منهج علمي يلائم واقعنا لا يعني أبدا التحلل أو التنصل والهروب من الاشتراطات والسمات العامة للتفكير العلمي، والانحراف أو الميل إلى التفكير الخرافي والأسطوري أو الارتجالي. فالتفكير العلمي له سماته العامة، التي تتعدى حدود الزمان والمكان، ومنها التراكمية والنسبية والتنظيم والتركيز على الأسباب التي تكمن وراء نشوء الظواهر، والشمولية، والدقة والتجريد.

2 ـ يجب ألا تكون عملية البحث عن هذا المنهج الملائم نابعة من رد الفعل النفسي حيال الغرب، حيث يقود الغضب من مواقفه السياسية إلى رفض أدائه وإنتاجه العلمي والمعرفي، والتعامل معه ككتلة واحدة، من دون تفريق بين السياسي والعلمي، أو بين أداء الساسة وجهود العلماء.

3 ـ لا يجب أن تكون هذه العملية متكئة على أسس أيديولوجية صماء، تلبية للصراع السياسي الساخن بين الشرق والغرب، الذي حدا بالبعض إلى حديث عن "علم إسلامي" مقابل "علم غربي". فإذا كان هناك من الإنتاج العلمي والطرق المنهجية الغربية ما هو منحاز ضدنا، فهناك أشكال ودرجات من التحيز بين الغربيين أنفسهم، ضد بعضهم البعض. فمن التحيز ما هو محلي، وما هو عابر للقارات.

4 ـ هذه العملية لا تعني رفض الوافد كلية، بل تسعى إلى وزن هذا "الوافد" بميزاننا الخاص. و"الإصرار على الإمساك بالميزان وعدم استيراده لا نأخذ موقفا غير علمي، فالعلم الطبيعي لا يتعامل مع الكليات أو المطلقات أو الغائيات، وإنما يتعامل مع الجزئيات والإجراءات، ويترك القيمة والصدق والغاية للإنسان يحددها كيفما تملي عليه معتقداته. ويمكن التعامل مع هذا الوافد بمنطق التعاطي مع "الحكمة"، التي تصل في أهميتها إلى درجة أن بعض المفكرين والفقهاء المسلمين يعتبرونها من "أصول الشريعة"، مع القرآن الكريم والسنة الصحيحة والعقل والعرف.