الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.(أرشيف)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.(أرشيف)
الأحد 12 مارس 2017 / 20:06

عنف تركيا الأردوغانية..!

ليس من السابق لأوانه القول إن في افتعال أزمة مع دول أوروبية فاعلة كألمانيا وهولندا (وفرنسا وسويسرا) ما يدل على خطأ في الحسابات، ويتجلى كخطيئة في التصرّفات

في اتهام الحكومة الألمانية بالنازية ما يمثل انتهاكاً للحقيقة من ناحية، وخرقاً لتقاليد دبلوماسية راسخة في إدارة الخلاف السياسي بين الدول، من ناحية ثانية، خاصة إذا صدرت اتهامات كهذه عن رأس الدولة. ومع ذلك، هذا ما فعله الرئيس التركي. وقد كان من الممكن التراجع عن أمر كهذا باعتباره زلة لسان صدرت عن رجل غاضب. ولكن السيد أردوغان كرر التهمة نفسها، وزاد عليها الفاشية، وألصقها، بعد أيام قليلة، بالحكومة الهولندية.

وهذا يعني أن في الأمر ما هو أبعد من زلاّت اللسان، فالعنف اللغوي (وفي اتهامات كهذه الكثير من دلالات العنف) المُمارس ضد خصوم متوّهمين في الخارج يبدو مكافئاً موضوعياً للعنف المادي، والرمزي، المًمارس ضد خصوم حقيقيين أو وهميين في الداخل. وهذا العنف يُضاف إلى قائمة طويلة تضم عبارات مُهينة استهدفت بشكل خاص الحكومة المصرية بعد الإطاحة بنظام الإخوان في القاهرة.

أما العنف المادي، وتجلياته الإعلامية والسياسية، ففي تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية ما يكفي للتدليل على حقيقة تسريح وطرد واعتقال عشرات الآلاف من موظفي الدولة التركية ومواطنيها، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، ناهيك عن عملية تقليص منهجية للحريات الفردية والعامة، وملاحقة المعارضين. وهذا كله معطوف على أزمة اقتصادية وسياسية تعصف بالداخل التركي، وعلى فشل وتخبّط ملحوظين في السياسة الخارجية.

وإذا شئنا التعليق بطريقة مجازية فيمكن القول إن في مجرّد تفريغ النظام السياسي التركي من مضمونه البرلماني، وتحويله إلى نظام رئاسي عن طريق الاستفتاء، في ظل شعارات شعبوية فاقعة، ما يمثل نوعاً من العنف المُمارس ضد الدولة التركية الكمالية، ونظامها السياسي، على طريق الاستيلاء عليها، وتحويلها إلى رهينة في يد الإسلام السياسي، مع كل ما ينطوي عليه تحوّل كهذا من آثار سلبية بعيدة المدى على بنية الدولة والمجتمع، وعلى الاستقرار والسلم الأهليين.

وإذا دققنا النظر في تفاصيل الأزمتين الألمانية والهولندية فإن الخلاف المُفتعل مع البلدين لا ينجو من دلالة العنف. صحيح أن في ألمانيا جالية تركية كبيرة تضم بضعة ملايين، وجانباً كبيراً من هؤلاء يحمل الجنسية الألمانية (القوانين الألمانية لا تسمح بتعدد أو ازدواجية الجنسية) ولكن يحق للحكومة الألمانية، ويندرج في مفهوم سيادتها على إقليمها السياسي، السماح لشخص أجنبي بممارسة دعاية انتخابية للتأثير على جمهور يقيم على أرضها، أو حرمانه من هذا الحق.

لم تخف الحكومة الألمانية تحفظاتها على توجّهات تركيا الداخلية والخارجية، بما فيها التمهيد للإطاحة بالنظام البرلماني. وهذه التحفظات، بصرف النظر عن مدى صوابها، تستمد شرعيتها وضرورتها من وجود الدولتين الألمانية والتركية في حلف واحد (الناتو) ومن المسعى التركي للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، ومن التداعيات الأمنية، والسياسية، والديمغرافية، لموجات المهاجرين إلى أوروبا عن طريق تركيا. بمعنى أن ما يحدث في تركيا، ولها، يهم الألمان، أيضاً.

وهذا يصدق، أيضاً، على الأزمة الهولندية، التي تفاقمت أكثر من الألمانية، وهي مرشحة لمزيد من التفاقم بعدما تحوّلت إلى صراع إرادات. فالحكومة الهولندية، لديها تحفظّات مشابهة لما لدى الألمان، وفي ممارسة للحق في السيادة، رفضت السماح لوزير الخارجية التركي بتنظيم حملة مناصرة للاستفتاء على أراضيها، فما كان من الأخير إلا أن أقلع بالطائرة، في محاولة لإرغام الهولنديين على القبول بالأمر الواقع، وبالتالي منع الهولنديون طائرته من الهبوط، وسرعان ما دخلت على خط الأزمة الاتهامات، والتظاهرات، وعمليات تجنيد الغرائز، والكلام عن عقاب هولندا.

في الحادثتين دلالة العنف، وما يوحي بالابتزاز السياسي، وتجنيد الغرائز. ومع ذلك، وبالقياس على تجارب الماضي القريب، سبق لتركيا الأردوغانية، وفي محاولة اللعب بالورقة الفلسطينية، خدمة لتوسيع النفوذ الإقليمي، وترجمة للتحالف مع جماعة الإخوان الدولية، أن دخلت في مشكلة مع إسرائيل، ولكنها اضطرت للتراجع، بعد حساب الأرباح والخسائر، في وقت لاحق. وتكرر الصدام، في سياق محاولة اللعب بالورقة السورية، مع روسيا، ولكن تركيا تراجعت، بعد حساب الأرباح والخسائر، في وقت لاحق.

بمعنى آخر، تخضع السياسة الخارجية، في تركيا الأردوغانية، لمبدأ التجربة والخطأ، وتتجلى في ممارسة للعنف اللفظي والابتزاز. وليس من السابق لأوانه القول إن في افتعال أزمة مع دول أوروبية فاعلة كألمانيا وهولندا (وفرنسا وسويسرا) ما يدل على خطأ في الحسابات، ويتجلى كخطيئة في التصرّفات. ولا مجازفة في القول إن ما حدث في الأزمتين الإسرائيلية والروسية مُرشّح للحدوث في الأزمتين الألمانية والهولندية، في وقت لاحق، أيضاً.

والمهم، في ظل غواية الشعبوية، وتجنيد الغرائز القومية، وما يكتنف هذه وتلك من عنف في الداخل والخارج، أن تركيا الأردوغانية تمنح شعبوية اليمين الأوروبي، والأميركي، المتربص بأنظمة الديمقراطيات الليبرالية، التي تجابه تحديات غير مسبوقة، المزيد من الأوراق الرابحة.