الموسيقار محمد عبدالوهاب.(أرشيف)
الموسيقار محمد عبدالوهاب.(أرشيف)
الثلاثاء 14 مارس 2017 / 20:11

محمد عبد الوهاب طاووس الشرق

محمد عبد الوهاب فنانٌ عبقريّ، لو أنَّ اللهَ خلقَه في أيِّ عصر، أو أيّ مكانٍ، لكان مخلوقًا فذًّا. يؤمنُ تمامًا بأن مكانَه الطبيعيّ بين صفوف العظماء والزعماء

بالأمس، ١٣ مارس (آذار)، كان عيد ميلاد الموسيقار العظيم محمد عبد الوهاب، فخر مصرَ وفخر العربِ وأحدِ أكبر أساطين الموسيقى في هذ الكوكب. ومنذ سنوات طوال، كتبَ أحدُهم هذه الكلمات: "محمد عبد الوهاب فنانٌ عبقريّ، لو أنَّ اللهَ خلقَه في أيِّ عصر، أو أيّ مكانٍ، لكان مخلوقًا فذًّا. يؤمنُ تماماً بأن مكانَه الطبيعيّ بين صفوف العظماء والزعماء. درس الرأيَ العام دراسة عملية صحيحة فعرف رغباته وميوله، وساعدته هذه الدراسة على أن يقدم رسالته في التجديد الموسيقي في برشامة هضمها الشعبُ بسهولة، واستطاع أن يتزعم الجيل الجديد. استطاعَ بفضل فنّه أنْ يكتبَ اسمَه بحروفٍ كبيرة في التاريخ الفنيّ".

تُرى مَن كاتب ذلك الرأي الموضوعيّ الصحيح تمامًا عن عبد الوهاب؟ مَن صاحب تلك الشهادة التاريخية المُنصفة التي لم تتجاوز الحقيقةَ مليمترًا ولم يشُبها شُبهةُ مزايدة أو مبالغة؟ الواقع أن صاحب تلك الكلمات هو آخر شخص في العالم يُمكن أن يتوقعه القارئ! إنه عبد الوهاب نفسُه، كتبها بنفسِه واصفًا نفسَه! هل ترون الأمرَ مُدهشًا؟! ربما، لكنني لا أراه كذلك، وسأذكر تعليلي وسرَّ عدم دهشتي في مدح الرجل نفسَه، في نهاية المقال.

دعوني أولاً أذكر لكم مناسبة تلك الشهادة التي كتبها الموسيقار عن نفسه. في عام ١٩٥٠، طلبتْ مجلة "الكواكب" من الموسيقار الكبير أن يكتب شهادةً عن نفسه فكتبَ ما سبق. وحين اضطلعت الدكتورة رتيبة الحفني، أستاذة الموسيقى وعميد معهد الموسيقى العربية آنذاك، بتأليف كتاب عن حياة الموسيقار محمد عبد الوهاب، عنوانه: "عبد الوهاب، حياتُه وفنُّه"، طلب إليها أن تضع شهادته تلك تصديراً لذلك الكتاب، وهو ما كان.

والحقُّ أنني قد أشارك القارئ دهشتَه من شهادة الأستاذ عن نفسه! لكن اندهاشي ليس من نرجسيته، فكلُّ مبدعٍ يحملُ قدراً من النرجسية، هي التي تجعلُه يُبدع. إنما اندهاشي من إعلانها. فالمبدع، كلُّ مبدع، عادة ما "يتقنّع" بشيء من التواضع، لأنه طوال الوقت يستمع إلى كلماتِ التقدير والإطراء من ألسن الآخرين. فيكون الحقُّ ما شهدَ به الآخرون. لكنني أقدّم تبريري الخاص لطاووسية الموسيقار عبد الوهاب بالرجوع إلى معاجم اللغة العربية، كعادتي في الشغف بردّ الأشياء إلى مسمياتها الأولى لُغويًّا.

ميّزتِ اللغةُ العربيةُ بين ألوان من "الإعجاب بالنفس" تمايزًا دقيقًا. فلدينا: النرجسيةُ، الغرورُ، التعالي، الاعتدادُ بالنفس، حبُّ الذات، الثقةُ بالنفس، الأنا المتضخمةُ، الأثرة، التكبّر، نفي الآخر، وغيرها من ألوان "رؤية الذات" في مقابل "إقصاء الآخر”. على أن ما نتحدث عنه في هذا المقال، لا ينتمي إلى تلك القائمة الشائكة التي يخرج معظمها من أرواح مصدوعة ونفوس مريضة. إنما هي "طاووسيةُ الفنّان". شيءٌ طفوليٌّ نبيل. شيءٌ ما داخل كلّ فنان حقيقي يجعله يرى نفسَه مختلفًا وجميلًا. وهي ضرورةٌ لكل مبدع، حتى يكون بوسعه أن يقوم بمهمته النبيلة فوق الأرض: “صناعة الجمال”. فلو أن الفنان قَبِلَ أن يرى نفسَه "عاديًّا"، لقَبِل، بالتالي، أن يُنتجَ شيئًا "عاديًّا”. وهذا، بظني، أحدُ أسبابِ انهيار الجمال في مصر الآن. لأن معظم فنانينا الحاليين يرون أنفسَهم عاديين، لأنهم بالفعل عاديون، فأنتجوا لنا "العاديَّ المعتاد"، فهبط الفنُّ. وحين هبط الفنُّ، هبطت معه الذائقةُ. لأن مستوى الفن المقدّم، ومستوى الذائقة المستقبِلة للفنون، صِنوان لا ينفصمان. فأصبحنا اليوم نقبلُ "العاديَّ" باعتباره "فنًّا” لأننا لا نجد البديل. وإن وُجد البديلُ الرفيع، لا يتمّ التخديم الإعلامي عليه لينتشر، لأن الذائقة العامة لم تعد تستسيغه، فيموتُ الرفيعُ ويعلو الهابط!

الفنانُ الحقيقيّ يرى نفسَه جميلاً ومختلفًا، فيعيش حالاً دائمة من الرعب على هذا الجمال وعلى ذلك الاختلاف عن الآخرين؛ فيخشى زوال مكانته الفريدة خشيتَه الموتَ، فيأبى إلا أن يُقدّمَ المدهشَ والمختلف والجميل. ونحن نقبلُ ذلك "الاعتدادَ بالنفس" من المبدع، رهانًا منّا على أنها إحدى أدوات إبداعِه، ومن ثم سببُ مُتعتنا. والإنسان يدفعُ فاتورة متعته، بنفس راضية. لذلك أحببنا نرجسيةَ المُغادِر الجميل محمود درويش حينما كان يختالُ ويتدلّلُ ويفرّ من الصحافة والمعجبين، وفتنتنا طاووسيةُ أحمد عبد المعطي حجازي وهو يلقي قصائدَه مثل مايسترو؛ عصاهُ هي يدُه؛ تُطوّعُ الحرفَ نَبْرًا وقَطْعًا وحركةً وسُكونًا وإدغامًا وإشباعًا، فيخرجُ الحرفُ مشحونًا بالغناء. تماما مثلما ابتسمنا بمحبة لقول المتنبي، عن نفسه، لسيف الدولة: "سيعلمُ الجمعُ مِمَن ضمَّ مجلِسُنا/ بأنني خيرُ مَنْ تسعى به قدمُ/ أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبيْ/ وأسمعتْ كلماتيْ من به صَمَمُ/.../ كَمْ تطلبونَ لنا عيبًا فيُعجِزُكم/ ويكرهُ اللهُ ما تأتون والكرمُ/ ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ عن شرفي/ أنا الثريا وذان الشيبُ والهِرَمُ."

لذلك نقبلُ ونثمّنُ ما قاله عبد الوهاب عن نفسه، مادام ملأ حياتَنا جمالا ورُقيًّا وبهجاتٍ ومتعًا، وطالما يظلُّ لنا أبدًا مُلهمًا لا يخبو ظِلُّه. فأنا، وكثيرون غيري، لا أقدر أن أكتب مقالي اليومي، إلا بعدما أستمع إلى عبد الوهاب. كل سنة وأنت طيب أيها الطاووس المايسترو. عِشْ في قلوبنا ألف عام، فالموتُ لا يقترب من الخالدين.