الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.(أرشيف)
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.(أرشيف)
الأربعاء 29 مارس 2017 / 18:28

السياسة هي السياسة

ليس أهمّ ما فعله المعلّم الفلورنسيّ العظيم أنّه نصح الأمير، ولا أنّه قال "الغاية تبرّر الوسيلة". أهمّ ما فعله، هو الذي يُعدّ مؤسّس "علم السياسة"، أنّه أكّد على انفصال السياسة عمّا عداها من أخلاقيّات

هزيمة دونالد ترامب في إحباط "أوباما كير" وتفكيكها جاءت أقرب إلى الفضيحة. مع أنّها كانت التمرين السياسيّ الأوّل للعهد الجديد، فإنّها نمّت عن فشل كامل. حزب الرئيس نفسه، أي الجمهوريّون، هو الذي خذله، على رغم سيطرة هذا الحزب على الكونغرس.

دونالد ترامب سارع إلى البحث عن انتصار يعوّض به تلك الهزيمة: في الضرائب، في البيئة...

ثمّة من وصفه، بعد ذاك الإخفاق المدوّي، بأنّه بات "بطّة عرجاء"، وهو النعت الذي يُنعت به الرؤساء في الأشهر الستّة الأخيرة من السنة الأخيرة من عهدهم، لا في الأشهر الستّة الأولى من سنتهم الأولى. لكنّ الذين ذهبوا أبعد في تحليل ما حصل، رأوا أنّ السبب كامن في جهل ترامب بالسياسة. إنّه يفكّر بها كما لو أنّها بيزنس. والسياسة ليست بيزنس. قد تنطوي على شيء من البيزنس، إلاّ أنّها ليست كذلك.
"واشنطن بوست" ذكرت ما يفيد أنّ سيّد البيت الأبيض لم يتعلّم شيئاً من هذه التجربة. فهو يريد من الحكومة، على ذمّة الصحيفة الكبرى، أن تتعلّم المزيد من طرق اشتغال البيزنس. وهو كلّف بالمهمّة هذه صهره جاريد كوشنير الذي قد يجد نفسه في عمق الورطة الروسيّة التي ما إن يُغلق باب من أبوابها حتّى يُفتح بابان.

من جهة أخرى، هناك دائماً عسكريّون يظنّون أنّ القواعد التي تسيّر الجيوش هي نفسها التي تسيّر السياسة والدولة. هؤلاء يستولون عبر الانقلاب على السلطة ليكتشفوا أنّ الأمور ليست كذلك. السياسة قد تنطوي على بُعد عسكريّ يظهر أحياناً، لكنّها ليست جيشاً ولا مؤسّسة عسكريّة.

الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين والرئيس الفيليبينيّ رودريغو دوتيرتي يتصرّفان كزعيمي عصابة. الأوّل يقتل بيد غيره. الثاني يقتل بيده مباشرة. لقد نقلا منطق العصابة إلى رأس الدولة، واعتبرا أنّ السياسة الناجحة هكذا تكون.

صحيح أنّ السياسات قد تنحطّ أحياناً إلى سويّة العصابات، لكنّ هذا انحطاط وليس سياسة. وحتّى حين يبدر سلوك عِصابيّ على دولة قانون، فإنّه سريعاً ما يتعرّض للإصلاح والتغيير بما يعيد الاعتبار إلى القوام والنصاب السياسيّين.

آخرون تعاملوا مع السياسة على أنّها دين. آية الله الخميني مثل بارز: لقد أنشأ دولة دينيّة محكومة بـ "ولاية الفقيه". محمّد مرسي حاول أن يمدّ تفويضه السياسيّ بما يباشر تديين الدولة. أيضاً، قد تنطوي السياسة والدولة على لحظة دينيّة، إلاّ أنّهما ليسا الدين. إنّهما ينتميان إلى مستوى آخر يتمايز عن مستوى المقدّس وعن اشتغاله.

فلاديمير إيليتش لينين افترض للسياسة هامشاً بالغ الضيق، تبعاً لتأويله الضيّق لـ "الدولة" بوصفها أداة قمع تمارسه الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج على الطبقات الكادحة. هذا النقص الفادح تطلّب جهود الفيلسوف الماركسيّ الإيطاليّ أنطونيو غرامشي لكي يوسّع مفهومي الدولة والسياسة من ضمن منطقهما واشتغالهما.

قصارى القول إنّ السياسة هي السياسة، حتّى لو تقاطعت مع قيم وممارسات أخرى، وحتّى لو احتوت جرعة مخفّفة من هذه القيم والممارسات. هذا درس يُفترض أنّ العالم قد تعلّمه ما بين أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر على يد ماكيافيللي. فليس أهمّ ما فعله المعلّم الفلورنسيّ العظيم أنّه نصح الأمير، ولا أنّه قال "الغاية تبرّر الوسيلة". أهمّ ما فعله، هو الذي يُعدّ مؤسّس "علم السياسة"، أنّه أكّد على انفصال السياسة عمّا عداها من أخلاقيّات. إنّ لها أخلاقها الخاصّة ومنطق اشتغالها الخاصّ.

لكنّنا نكتشف، مرّة بعد مرّة، أنّنا لم نتعلّم الكثير.