من فيلم راشومون.(أرشيف)
من فيلم راشومون.(أرشيف)
الأربعاء 29 مارس 2017 / 18:31

بوابة المعبد

كما الشخصيات عند دوستويفسكي، لا تحتاج شخصيات كوروساوا في فيلم "راشومون"، كثيراً من الضغط الدرامي حتى تعترف بغموض وتضارب انفعالاتها

أثناء التحضير لفيلم "راشومون" 1950 للمخرج أكيرا كوروساوا، طارتْ شركة الإنتاج من السعادة، لمعرفتها أن الفيلم يتطلب بناء ديكور واحد، بوابة معبد، إلا أن تلك السعادة تلاشتْ أمام تفاصيل بناء الديكور الواحد. اكتشفتْ شركة الإنتاج أن تكاليف بناء بوابة المعبد الواحدة التي يريدها كوروساوا، تساوي تكاليف بناء 100 بوابة أخرى. كانت بوابة المعبد العملاقة في تاريخ ديكورات السينما، علامةً لا تُنسى.

يقوم فيلم "راشومون" على ثلاثة بلوكات مكانية، بوابة المعبد الكبيرة، الغابة، دار العدل. الوحدات المكانية الثلاثة قائمة في فراغ زمني، ولهذا يكون الانتقال في زمن الفيلم من مكان لآخر، عبر القفز الخشن الذي يوحي بالعزلة. تقوم دراما الفيلم على أن أحد النبلاء يُقتل في غابة، وتُغتصَب زوجته، ويُتهم أحد قطّاع الطرق بارتكاب الجريمة، لكن أحد الحطابين شاهد الحادثة بمحض الصدفة، وعندما يسترجع الفيلم روايات حادثة القتل، فإنه يخفي الحقيقة، بدلاً من كشفها. فهناك مشهد لانتحار النبيل، ومشهد لقتله بيد زوجته، ومشهد لقتله بيد قاطع الطريق، والمشاهد الثلاثة ترقى لصدق الحقيقة. في العادة السينما التقليدية لا تغفر نزاعاً فلسفياً حول جريمة قتل. هنا تبدو بوضوح قرابة كوروساوا في غموض جريمته مع جرائم دوستويفسكي.

كان كوروساوا يفكر في السينما الصامتة، وهو يصنع فيلم "راشومون". يفكر تحديداً في التعبير البصري المفرط. بوابة المعبد العملاقة بأعمدتها المرتفعة، وسقفها نصف المتهدم، الشبيه بشراع شاهق لسفينة قراصنة من عهد بائد، وتكسير مياه المطر على درجات سلالم البوابة. إن مَشَاهِد تعقيدات النفس البشرية التي تُناقَش بين الكاهن والحطّاب وواحد من عامة الناس، تحت وابل المطر، وبنصف حماية من سقف المعبد المتهدم، ومدخله الأمامي، ودرجات السلالم الواسعة، هي من المَشَاهِد البصرية التعبيرية القصوى في فيلم "راشومون". وكما الشخصيات عند دوستويفسكي، لا تحتاج شخصيات كوروساوا في فيلم "راشومون"، كثيراً من الضغط الدرامي حتى تعترف بغموض وتضارب انفعالاتها، ولهذا يبقى ممثل دار العدل أو دار القضاء، غائباً عن الحضور الجسدي أو الصوتي، وغيابه يعني أن الاعتراف لا قيمة له، وأن العقاب متروك لتقدير الشخصيات، لتقدير حجم وفداحة ذنوبها، لتفرض على نفسها العقاب المناسب. بصرياً يعني الغياب البارد لممثل دار العدل، أن اعتراف الشخصيات مُوجَّه إلينا مباشرةً، مُوجَّه إلى عين الكاميرا، أي إلى عين المُشاهِد.
من أكثر الروايات رهبةً وعبثاً أمام دار العدل، هي رواية الوسيط النفسي الذي يتحدث باسم النبيل المقتول. تحية كوروساوا لمجد السينما الصامتة. ملابس الوسيط النفسي البيضاء تطوحها الرياح، وملامح وجهه العابسة، نظراته الآتية من قاع الجحيم، الحاجبان الأسودان المرسومان بحدة وتأهب أعلى الجبهة، على طريقة مسرح النو.

ما الذي يقف حائلاً أمام عقاب شخصيات فيلم "راشومون" طالما أنها تعترف بذنوبها؟ الحائل هو تبرير وجودها، فهي شخصيات أنانية تسرق وتكذب وتخون وتقتل، في غياب تام لمعيار الحقيقة الواحدة، أو في حضور كثيف لحقائق لا تُحصى ولا تُعد. دائرة من الاتهامات المُتَبَادَلَة تعصف بشخصيات الفيلم. طفل رضيع يوضع في جانب من بوابة المعبد. الرجل العامي يسرق بوحشية لفائف الرضيع، الكيمونو، وربما وتعويذة الحماية. الحطّاب يتهم الرجل العامي بالقسوة، والرجل العامي يتهم أهل الرضيع الذين تركوه، تحت المطر، ويتهم أيضاً الحطّاب الذي سرق خنجراً مُطعماً باللؤلؤ من مكان الجريمة، وأخفى في شهادته أمام دار العدل، أمر الخنجر الخاص بزوجة النبيل المقتول. بينما يشك الكاهن في إنسانية الحطّاب الذي يريد أن يأخذ الطفل، ليربيه مع أطفاله الستة. يحتاج كوروساوا إلى ظروف درامية قصوى، ليكشف الاضطراب العميق في الأخلاق الإنسانية. خلفية فيلم "راشومون"، هي حرب أهلية في القرن العاشر الميلادي، طواعين، مجاعات، قطَّاع طرق، جثث قتلى في كل مكان.

في جلسة على المقهى مع مخرج مصري كبير، يقترب من الثمانين، قال لي بأنه يعاني من اضطراب الذاكرة. وكان هذا رده على العودة للتدريس. فصل دراسي فقط لعام 1990 عن السينما اليابانية. كلفني رئيس قسم السيناريو في المعهد العالي للسينما، بعرض العودة على المخرج الكبير. وهو يشرب قهوته، كانت الدردشة متقطعة عن السينما اليابانية. تذكَّر بصعوبة حبّات أرز يلتقطها فلاح من على أرضية خشبية في فيلم "الساموراي السبعة" 1954. عندما ذكرتُ اسم فيلم "راشومون"، ابتسم المخرج الكبير، وخفّ عن كاهله عبء السنوات، ثم رفع يده في الهواء إشارةً إلى علو بوابة المعبد في الفيلم. جاءتْ إشارة يده قبل لحظات من إسعاف ذاكرته بكلمات عن الفيلم، ثم شبَّه سقف بوابة المعبد بشراع سفينة يطعن السماء.