رحلات ابن بطوطة(أرشيف)
رحلات ابن بطوطة(أرشيف)
الخميس 13 أبريل 2017 / 20:04

جاذبيةُ الارتحالِ والسفر.. المكانُ حينما يصبحُ شغفاً متجدّداً!

"كنتُ أتعمدُ ألا أسيرَ على دربٍ طرقته من قبل مرتين". هذه المقولةُ منسوبةٌ إلى ابن بطوطة اللواتيّ الطنجيّ الملقب بأمير الرحّالين المسلمين، وهي مقولة نجدها في كتاب أسفاره "تُحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، والعجيب أنَّ ابن بطوطة قضى جلّ حياته مرتحلاً إلى أقاصي الشرق واحتفظ بمشاهداته كلّها عن المكان منقوشةً في ذاكرته ولم يدوّنها هو! إنَّ الذي دوَّنها هو الفقيه الأندلسيّ ابن جُزي الكلبيّ الذي استمع إلى ابن بطوطة وهو يسردُ رحلاته شفاهة، ولاشكَّ أنَّ ثمّة سرداً انتقائياً قامت به ذاكرة ابن بطوطة، وقام به كذلك قلم ابن جُزي الكلبي وهو يدوِّن تلك الرحلات المدهشة! لو كان ابن بطوطة قد دوَّن رحلاته بنفسه كما فعل على سبيل المثال ابن جُبير الأندلسي لربَّما كنا سنستمتع بسردٍ من نمط آخر مغاير لايخلو من الدهشة العجائبية!

من خلال قراءتي لمئاتٍ من المصنفات القديمة والحديثة التي تناولت موضوع الارتحال والسفر، دائماً يلفت انتباهي ذلك الشغف المحفِّز على مغامرة الرحلة والعودة ثم المغامرة من جديد! لولا هذا الشغف المتجدّد لما كانت صناعة الكتابة المدهشة المتولِّدة عن تلك الأسفار. في طفولتي المبكرة جداً انبهرتُ بشخصية السندباد البحري في المسلسل الكارتوني الذي يحمل اسمه، إلى الحد الذي ابتكرتُ فيه بنفسي طريقة بدائية لعرض رسوماتي لهذه الشخصية في جهاز بسيط مشابه للتلفاز! ولفت انتباهي هذا الشخص "السندباد" المستعصي على حركة الزمان والمكان، السندباد الذي احتفظ بالدهشة الطفولية البدائية فانتقل بسفينته يجوب العالم كله بحثاً عن معرفةٍ جديدةٍ وشغفٍ استثنائي مغاير واحتفظ بهذه الدهشة طوال تلك المغامرات، وبعد مغامرات طويلة وممتدة في حيِّز الزمان كان السندباد محتفظاً بشبابه وحيويته لم يفقدهما مطلقاً. إننا لانجد في تلك المغامرات سوى تغيّر الأمكنة فقط، أمَّا حركة الزمان فكأنَّما بقيت متجمّدة لزمن الشباب فقط!

كان غاستون باشلار الناقد الفرنسيّ مهموماً بجماليات الأمكنة، ولذلك ميّز بين الأمكنة الجغرافية البحتة وبين المكان حينما يحتفظ ببعده النفسيّ والثقافيّ، ولذلك ثمَّة أمكنة جاذبة تغريك بزيارتها وأخرى طاردة لاتستطيع العودة إليها مطلقاُ. ولكني أعتقد أنه لدى عشاق السفر ذلك النمط من المغامرة الذي يغريهم بزيارة هذه الأمكنة جميعها بغض النظر عن جاذبيتها أو عدمها، السبب لأنهم يخلقون في داخلهم متخيلاً للأمكنة التي يزورونها وتبقى تلك المخيلة مخصوصة بهم وحدهم وتبقى ذاكرة السفر منقوشةً في ذاكرتهم تكسبهم وعياً استثنائياً في التعامل مع مفردات الكون من حولهم.

آلاف الأشخاص في هذا العالم يرتحلون من مكان إلى آخر ويوثّقون رحلاتهم وأسفارهم، ولكن كم عدد الرحّالة الاستثنائيين الذين يشعرون بعمق روح الأمكنة ولذلك تكون ذاكرتهم وتكون كتاباتهم وتكون حتى صورهم من نمط آخر أستطيع أن أصفه بالشغف المدهش والوعي الاستثنائي جداً؟! وأمثال هؤلاء لو وثّقوا رحلاتهم فستأتي كتابتهم استثنائية تختلف عن الانطباعات السطحية العابرة لمن لم يتغلغلوا في روح الأمكنة ولم يستشعروا جمالياتها! وحده فقط عاشق المكان هو الذي يبوح له المكان بأسراره ولذلك يكون وعيه مغايراً وعميقاً.