زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبان.(أرشيف)
زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبان.(أرشيف)
الأربعاء 3 مايو 2017 / 19:18

القوميّة وانتخابات الأحد الفرنسيّ

إمّا أوروبا وقيمها والرهان على تجاوز المآزق الكبرى لفرنسا من خلال الانفتاح على العالم، أو القوميّة وقيمها وغرائزها والتعويل على حلول وهميّة تحقّقها العزلة والعداوة

أوروبا هي مهد القوميّة في عالمنا الحديث. منها تعلّم سائر العالم هذا المصطلح واطّلع على معناه. وهذا المفهوم كان له دور بارز في صعود الحداثة الأوروبيّة، ابتداء بنشأة الدولة – الأمّة بعد انهيار العالم المسيحيّ – اللاتينيّ الجامع.

لكنّ القوميّة كلّفت أيضاً ما لا تقوى الشعوب على تحمّله دماً وخراباً. في القرون الماضية كانت الأكلاف تمهّد لمنافع أكبر، أو تواكبها. من ذلك مثلاً إنهاء التفتّت المجتمعيّ إلى حارات ومناطق ودساكر. لكنّ الحرب العالميّة الثانية خصوصاً، وبعد إحراز تقدّم هائل في تقنيّات العنف وأدوات القتل، غيّرت المعادلة بين الأكلاف والمنافع: لقد دفعت أوروبا خصوصاً، والعالم عموماً، خمسين مليون قتيل. ولم يكن قد انقضى أكثر من ربع قرن على الملايين العشرة الذين أودت بهم الحرب العالميّة الأولى.

كانت هذه التجربة المُرّة درساً بليغاً في مضارّ القوميّة وفي عداواتها. الأوروبيّون الأذكى، والأكثر إنسانيّة، والأرفع في حسّهم المستقبليّ، حلموا بتجاوز القوميّات. حلموا بأن تتجرّد الأمم منها. بأن يصار إلى بناء أوروبا ذات العنف المنزوع، تمهيداً لنزعه في باقي العالم.

البدء سياسيّاً يكون بفرنسا وألمانيا اللتين جمعت بينهما حروب وعداوات كان غالباً ما ينجرّ إليها معظم بلدان القارّة. والبدء اقتصاديّاً يكون ببناء مصالح مشتركة تحلّ محلّ الغرائز القوميّة وأطماعها التوسّعيّة.

هكذا انطلق المشروع الأوروبيّ وراح يتطوّر خطوة خطوة. تغلّب على التحدّيات التي طرحها التحوّل الديمقراطيّ في جنوب أوروبا (إسبانيا، البرتغال، اليونان) أواسط السبعينات. تغلّب أيضاً على مضاعفات الانهيار السوفييتيّ واستوعب فيه عشرات الملايين من أبناء أوروبا الشرقيّة والوسطى. تغلّب على مضاعفات التوحيد الألمانيّ الذي أعقب انتهاء الحرب الباردة. وفي موازاة ذلك كلّه، شذّب النعرات الشعبويّة والقوميّة الحادّة داخل بلدان الاتّحاد. الزعيم تراجع لمصلحة السياسيّ. الوسط كاد يحتوي الهامش المتطرّف. السياسة صارت أقرب إلى المنافسة واللعب. إرهاب اليمين وإرهاب اليسار، في إيطاليا وألمانيا وكذلك في إيرلندا الشماليّة وبلاد الباسك والكاتالان، صارا نشاطاً تآمريّاً يناوئ رغبات السكّان وإراداتهم.

في العقود الثلاثة الماضية شرعت هذه الحال تتغيّر. حصل ذلك بالتدريج، وحصل لأسباب كثيرة. السبب الأهمّ، مع ذلك، أنّ الأزمات الاقتصاديّة، وآخر حلقاتها انفجرت في 2008، ضربت المصالح وأعادت النفخ في الغرائز. الهجرات السكّانيّة وأعمال اللجوء قدّمت للقوميّين والعنصريّين حججهم السهلة: هؤلاء الأغراب يستولون على أعمالنا ويهدّدون طرقنا المألوفة في الحياة. أوروبا، بدورها، بدت غريبة لكلّ واحد من بلدانها، خصوصاً وأنّ الكثيرين من العمّال المهاجرين كانوا هم أنفسهم أوروبيّين.

فرنسا، تحديداً، بدت مشكلتها أكبر. معاناتها الاقتصاديّة وتخلّفها التقنيّ وبوارها الصناعيّ يفوق حصص البلدان الأخرى منها. ريادتها الثقافيّة القديمة أطاحها صعود الثقافة الأمريكيّة وانتشارها الكونيّ المتسارع. زعامة أوروبا صارت معقودة لألمانيا، لا لها. المساءلة المتزايدة لتاريخها الاستعماريّ، مع تعاظم المراجعات التاريخيّة، بدت جارحة لنرجسيّتها القوميّة و"التمدينيّة".

هذه الارتدادات كلّها تجتمع راهناً في "الجبهة الوطنيّة" ومرشّحتها للرئاسة مارين لوبن. إنّها، في الاقتصاد كما في السياسة والثقافة، تطرح الرجوع إلى القوميّة حلاًّ وخلاصاً من "عبوديّة أوروبا".

ويوم الأحد المقبل، ستقول أكثريّة الفرنسيّين كلمتها: فإمّا أوروبا وقيمها والرهان على تجاوز المآزق الكبرى لفرنسا من خلال الانفتاح على العالم، أو القوميّة وقيمها وغرائزها والتعويل على حلول وهميّة تحقّقها العزلة والعداوة. هذا هو المعنى الأعرض لانتخابات الأحد المقبل.