الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه.(أرشيف)
الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه.(أرشيف)
الأربعاء 3 مايو 2017 / 19:19

إرادة القوة

نيتشه عَدَل المايلة، عَدَل إرادة شوبنهاور، أنزلها من التهويم الضبابي، وأسماها "إرادة القوة"

عادةً هناك مسافة يستحيل قطعها بين صورة فوتوغرافية لكاتب مُفضَّل، وبين أعماله. مُحاوَلَة قطع المسافة لا تكون إلا بالتحديق في صورة الكاتب، أو بمعنى آخر أكثر جذرية، بداية ونهاية المُحاوَلَة في قطع المسافة، تكون بالتحديق في ملامح الكاتب ثم العودة إلى أعماله ثم الرجوع مرة أخرى للتحديق في الصورة الفوتوغرافية، وهكذا تنغلق الدائرة، دائرة عُصاب، تجنح للتكرار. ليس معروفاً إذا كان هذا التحديق، هذا التأمل في صورة الكاتب، يضفي قيمةً إضافية على أعماله أم لا.

في دراسة عن الأسلوب للفيلسوف الألماني شوبنهاور (1788- 1860)، يُصرَّح بأن أسلوب الكاتب، هو تقاطيع الذهن وملامحه. لأول وهلة يقفز مع التصريح القوي، أن تقاطيع وملامح الأسلوب تُنْحَت في مجرى الزمن، تُنْحَت بدأب وصبر، تُنْحَت بشكل سري من قِبَل الكاتب ثم تظهر للعيان. ها أنا ذا. الموضوعات جميعاً ستُكْتَب بهذا الوجه، بتلك الصورة. دَقق في التقاطيع، في الملامح، لتتعرف عليها بمجرد الرؤية، فهي معك إلى الأبد.

تقوم فلسفة شوبنهاور على قاعدتين، الأولى أن العالَم امتثال، والثانية أن العالَم إرادة. وفيما يتصل بالقاعدة الأولى، وهي أن " العالَم من امتثالي"، يقول بأن كل وجود خارجي في الواقع مردّه إلى الذات، وتبعاً لذلك أستطيع أن أستنتج كل قوانين العالَم من الذات. يسأل هل العالَم يسير على نظام؟ وجوابه أن العالَم يسير على قانون. ما هو هذا القانون؟

إنه مبدأ "العلّة الكافية". فكل امتثالاتنا مُرتَّبة فيما بينها على نحو من شأنه أن يجعل الواحد منها مرتبطاً بالآخر، ولا شيء منها يقوم مستقلاً بنفسه أو منفصلاً عن غيره. وإذا تتبعنا ملايين الصور الفوتوغرافية، وملايين النظرات إليها، لخرجنا بارتباط وثيق، وترتيب كامل بينها، ولأن هذا المجهود الخارق لم يحدث بعد، ولأنه مُتعذِّر الحدوث، فستبقى هناك مسافة بين الذات وبين وموضوع امتثالها.

أمّا القاعدة الثانية التي تقول إن العالَم إرادة، فهي محو وابتلاع وطمس للقاعدة الأولى، محو تقاطيع وملامح الأسلوب التي نحتها شوبنهاور بنفسه. ابتلاع وطمس المسافة بين الذات والموضوع. الإرادة أصبحتْ جوهراً، أصبحتْ "الشيء في ذاته". إنها تختلف عن ما نفهمه من معنى الكلمة، فنحن نفهم من الإرادة أنها قوة نفسية تأتمر بالعقل، وتصدر في أفعالها عن بواعث يمليها العقل بأحكامه. لكنها الآن شبه عمياء، غير عاقلة، تُمارس عملها على الإنسان والجماد معاً. إنها وحدة الوجود، لكن ليس بالمعنى العددي الذي يُقال في مقابل الكثرة، إنما بالمعنى الوجودي الذي يُقال على سبيل الإطلاق، والذي يدل على البساطة وعدم القابلية للتجزئة والانقسام. هي الحضور في كل مكان، وبنسبة واحدة في الشيء الضئيل كما في الشيء الكبير، إذ لا معنى لهذه التفرقة بالنسبة إليها، فإن هذه التفرقة تقوم فقط للممتد في المكان، والإرادة ليستْ ممتدة ولا متميزة، فلا يُمكن أن يُقال، إن مقداراً صغيراً منها في الحجر، ومقداراً أكبر في الإنسان.

عندما مات شوبنهاور كان نيتشه في السادسة عشرة من عمره (1844 – 1900). نيتشه عَدَل المايلة، عَدَل إرادة شوبنهاور، أنزلها من التهويم الضبابي، وأسماها "إرادة القوة". ما هي إرادة القوة؟ هي بضربات المطرقة النيتشوية، القوة في علاقة جوهرية مع قوة أخرى، والفرق بين القوتين، يُعبِّر عن نفسه بانتصار، بفوز، باستعراض. جوهر إرادة القوة في فرقها الكمي عند صدامها مع إرادة قوة أخرى. إرادة القوة ليستْ مُخْتَزَنَة في الداخل، تهدد من وراء الجدران، ليستْ مصقولة، ليستْ شاعرية، ليستْ أسلوبية. إنها فظة، طليقة، في الخارج دائماً. يؤكد جيل دولوز في كتابه "نيتشه والفلسفة"، أنه لا يمكن فصل إرادة القوة عن القوى الأخرى، من دون السقوط في التجريد الميتافيزيقي، تجريد شوبنهاور. إن إرادة القوة ظافرة بطبيعتها، فمن بين قوتين داخلتين في علاقة، تكون واحدة مُسيطرة، والأخرى مُسيْطَراً عليها. يربط نيتشه إرادة القوة بعنصر النَسَبْ، القرابة، وعنصر النَسَبْ مُتعاقب في الزمن، وفي هذا التعاقب يُعاد إنتاج علاقات القوة، ليس بترتيب مسبق، ولكن عبر الصدفة، والصدفة هي التي تضع القوى في علاقة، دون حساب لنتائج الصدام. الصدفة أيضاً خارجية، هوائية، ولهذا تضمن براءة الصدام بين قوتين. القوة المهزومة تصنع الشعور بالذنب، والشعور بالذنب هو عدو القوة الظافرة. الشعور بالذنب مصقول، عدمي، أسلوبي، مُخْتَزَن، وتأملي. لا يملك سوى التحديق في الماضي.