المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.(أرشيف)
المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.(أرشيف)
الأربعاء 17 مايو 2017 / 20:18

مجدداً.. أوروبا شرقيّة وأوروبا غربيّة؟

الصعود الشعبويّ المناهض لأوروبا المرفق بالتحدّي الاقتصاديّ يفرض على الزعيمين سرعة التحرّك وجدّيّته، ومن ثمّ إفضاءه إلى ثمار ملموسة

لاحظت صحيفة فايننشال تايمز تفاوتاً بين دول أوروبا الغربيّة ودول أوروبا الشرقيّة في استقبال إيمانويل ماكرون وانتخابه. فوز الرئيس الفرنسيّ الجديد هلّلت له الأولى بحماسة، فيما تعاملت معه الثانية بالتهنئة البروتوكوليّة الباردة والمتحفّظة.

أبعد من ملاحظة الجريدة البريطانيّة الرصينة أنّ ثنائيّ فرنسا وألمانيا سيعاد تفعيله بقوّة، وسوف يغدو من جديد أساساً صلباً للعمل الأوروبيّ المشترك، لا سيّما بعد الانتخاب المرجّح للمستشارة أنغيلا ميركل (وللمرّة الرابعة) في سبتمبر (أيلول) المقبل. انتصار حزبها المسيحيّ الديمقراطيّ في الانتخابات الفرعيّة الأخيرة عزّز هذا الترجيح. هكذا جاء استقبال ميركل لماكرون في برلين، قبل أيام، يضج بهذا التفاؤل الاحتفاليّ.

الصعود الشعبويّ المناهض لأوروبا المرفق بالتحدّي الاقتصاديّ يفرض على الزعيمين سرعة التحرّك وجدّيّته، ومن ثمّ إفضاءه إلى ثمار ملموسة.
الأمر ليس كذلك في أوروبا الوسطى والشرقيّة، بما فيها أكثر بلدانها تقدّماً: هنغاريا وتشيخيا. هناك، كما في بولندا وكرواتيا وسلوفينيا وسواها، نزعة العداء لأوروبا قويّة وتزداد قوّة، والأحزاب المتحفّظة على التقارب القارّيّ تحتلّ صدارة المشهد السياسيّ. فالاقتصادات الوطنيّة أضعف منها في الشطر الغربيّ، فيما القوميّة والشعبويّة والنزعة الفلاّحيّة أقوى وأصلب. كذلك فالعلاقات بين الجماعات الإثنيّة واللغويّة لا تزال معقّدة وغير محلولة في الكثير من بلدان الشرق الأوروبيّ فيما الولاء للكنيسة لا يزال أمتن، وبلا قياس، ممّا في أوروبا الغربيّة.

يزيد الأمر سوءاً الرياح التي تهبّ على أوروبا الوسطى والشرقيّة من جنوبها الشرقيّ: من بلدان كألبانيا ومقدونيا وصربيا وباقي دول البلقان الصغرى التي تطمح إلى اكتساب عضويّة الاتّحاد الأوروبيّ. فهناك تتضاعف كلّ معضلات الاستقرار السياسيّ وتتعاظم، سيّما وأنّ نيران الحرب اليوغوسلافيّة لم تخمد كلّيّاً بعد، والتوقّعات التي ترشّحه للتجدّد تتزايد.

لقد طرحت ميركل، تبعاً لهذه الفوارق مجتمعة، نظريّة "السير بإيقاعين"، واحد سريع في الغرب وآخر أبطأ في الشرق. لكنّ اندفاعة التمزّق قد تكون أشدّ زخماً بحيث لا تستطيع تلك النظريّة استيعابها والسيطرة عليها.

والحال أنّ للتاريخ إسهامه الكبير في ذلك. فدول أوروبا الشرقيّة خرجت من حطام الإمبراطوريّة الهبسبورغيّة، النمسويّة – المجريّة، التي تداعت قبل قرن بالتمام. وقبل أن تستقرّ تلك الدول على حال، في داخلها وثقافتها السياسيّة كما في حدودها، اندلعت الحرب العالميّة الثانية وما تلاها من احتلال ألمانيّ ثمّ تحرير وغزو سوفييتيّين. هذا التطوّر الأخير فاقم اختلاط الأمور في أوروبا الوسطى والشرقيّة بقدر ما أضاف إليه جرعة رفيعة من الكبت السياسيّ وكبت الهويّة القوميّة. وهذا جميعاً إنّما تجاوزته أوروبا الغربيّة في أزمنة أسبق.

لكنّ انتهاء الحرب الباردة وانهيار المعسكر السوفييتيّ أوحيا للأوروبيّين (والأميركيّين) بالقدرة على توحيد أوروبا، قفزاً فوق عوائق التاريخ والواقع. لقد حدث ذلك مرفقاً بضجيج التوسّع الكونيّ للديمقراطيّة الليبراليّة وحرّيّة السوق و"القرية الكونيّة الواحدة". بيد أنّ الأزمة الاقتصاديّة، ابتداء بـ 2008، أعادت إطلاق العفاريت التي بدا، في وقت سابق، أنّها نامت نوماً أبديّاً.

هكذا يحيط التشاؤم راهناً بوحدة الشطرين ومستقبلها، وإن بقي عنصر غامض لم تُستكشف احتمالاته بعد: الخوف من روسيا. صحيح أنّ فلاديمير بوتين أوّل كارهي الوحدة الأوروبيّة، وهو الحليف الأوّل لسائر النزعات الشعبويّة المناوئة لأوروبا. غير أنّ تاريخ الخوف الأوروبيّ الشرقيّ من موسكو إنّما يجمع بين الليبراليّين الديمقراطيّين والقوميّين الشعبويّين، كما بين الملاحدة وعتاة التديّن. وهذا الخوف يدفع في اتّجاه آخر لا يزال من المبكر الجزم في وجهة اشتغاله.