السبت 20 مايو 2017 / 19:05

البيان والسلطان.. البلاغة السياسية لدى العرب

في تاريخ العرب وغيرهم تأرجحت علاقة البلاغة بالسياسة بين نقطتين، الأولى عمياء، والثانية مبصرة. وتدخل هذه العلاقة إلى جدران العمى، عندما يكون العنصر المهيمن على النص هو توصيل الرسالة السياسية، بينما تدخل الفضاء المبصر، حين تنطلق من إدراك أن العمل الأدبي هو ممارسة لغوية بالدرجة الأولى، حتى ولو كان يتناول موضوعا يمس السياسة. ومثلا كان صدام حسين، الذي أقحم نفسه في زمرة الروائيين خلال السنوات الأخيرة من عمره، يقلب في خطبه وكلماته، حتى في الأوقات العصيبة المريرة، هذا التصور، فيمنح العمى للأدب، حين يستخدم لغته الخاصة في أغراض تقف عند ذروة السياسة، وتحت سقف الحرب الطاحنة، ويمنع الإبصار عن السياسة، باستخدامه مفردات عتيقة، في وقت هو في مسيس الحاجة إلى التواصل مع عالم خارجي، يراهن عليه في أن يشكل رقما ذا بال في الحرب التي تدور رحاها على أرض بلاده.

في الواقع لم يكن صدام هو الوحيد في العالم العربي الذي يطوع "اللغة الأدبية" لخدمة مقاصده السياسية فقد درج الخطاب السياسي العربي على هذا الأمر منذ زمن طويل. وربما لحظة البداية في هذا الشأن هي تلك التي يرصدها كارل بروكلمان في موسوعته "تاريخ الأدب العربي"، حين ترك أبو الطيب طاهر بن الحسين، مؤسس الدولة الطاهرية (ت 822 م) وصية سياسية لابنه عبد الله عندما عينه واليا على ديار ربيعة، مرصعة بالسجع والمحسنات البديعية. بل ما هو أقسى من ذلك نجد اللغة الأدبية حاضرة بشدة في عملية صناعة القيم، التي تتبناها بعض المؤسسات التربوية في العالم العربي حيث تقوم اللغة الخطابية، القائمة على لعبة الكلمات، بدور مركزي في بنية الأهداف التربوية التي تجذرها تلك المؤسسات، حين تعكف على تشكيل القيم الاجتماعية. فهذه الأهداف تحاط غالبا بهالة من الأناقة اللفظية والصخب اللغوي. فالسجع والموازنة والطباق والجناس والتلاعب بالكلمات والتكرار والغموض والإيحاء والعبارات المتراكبة هي السمات الأساسية، التي تظهر في جوانب النصوص التربوية العربية، في أغلبها. فتلك النصوص تخاطب العواطف والمشاعر أكثر مما تتجه إلى العقل والمنطق، أي أنها ذات طابع أدبي بالدرجة الأولى. وفي مثل هذا السياق تشكلت ذهنية صدام حسين، حين تربى في مؤسسة "القبيلة" ومن بعدها "الحزب"، وكلاهما يرسخ قيما تلبس، مهما كانت حمولاتها النظرية ومسالكها التطبيقية، ثوب البلاغة اللغوية، من خلال الموروث الشعري عند القبيلة، والخلفية الأيديولوجية عند الحزب.

من هنا نجد في حال رصد مفردات ألوان عديدة من الخطاب السياسي العربي أن المجاز أو الاستعارة تقع في قلبه. فكثيرا ما يحرص الساسة على أن يضمنوا خطابهم، خاصة إذا كان موجها للجماهير العريضة، عبارات مفعمة بالبلاغة والتشبيهات، حتى يتسنى لهم تعبئة شعوبهم، خلف القضايا التي يتبناها النظام الحاكم. كما تبدو اللغة أداة طيعة، أو سلاحا، في يدهم حين يرغبون في التلاعب بعقول هذه الجماهير وتضليلها، ولعل تحليل واحد فقط من البيانات التي يلقيها بعض الساسة العرب تبين هذا بجلاء، إذ إنهم يحشون بياناتهم بلغة فوق لغة تحمل وعودا لا يمكن لمسها وتصف واقعا لا يوجد على الأرض، وتهرب من مواجهة الحقيقة بالتواء اللغة وفضائها المرسل، المشبع بأفعل التفضيل، والمجاز والاستعارات الملفقة.

وعبر اللغة يمكن منح الواقعة السياسية الواحدة معان مختلفة، فعلى سبيل المثال، فإن غزو دولة لدولة أخرى، قد يعتبره خطاب سياسي معين "انتهاك سيادة دولة مستقلة"، بينما ينظر إليه خطاب آخر، خاصة الذي تصدره الدولة الغازية على أنه "تحرير شعب من سلطة مستبدة"، وهذا ينطبق على الحالة العراقية الراهنة. وحين يتحدث المسؤولون عن النفقات الحكومية على أنها استثمارات عامة، فإن لغتهم تبدو مفعمة بالألفاظ التي تنم عن الفخر، وعلى العكس يتم تغليف هذه اللغة بالتواضع إذا تم النظر إلى هذه النفقات على أنها ضرائب تدفعها الجماهير.

فليست السياسة سلعة مادية مثل الدراجة أو السيارة، وليست وجبة نتناولها، بل هي خطاب. والكلام أمر مهم في الحياة اليومية للساسة، فنحن نتعرف على الأحداث السياسية من خلال الكلمات، التي نتلقاها من التحدث مع الساسة أو قراءة الصحف أو مشاهدة الأخبار المتلفزة. وإذا كانت الأنظمة السياسية تحاول بكل ما وسعها من جهد أن تكتسب الشرعية، فإن الشرعية تأتي، في النهاية، من الخطاب، أي من اللغة.

واللغة تشكل نقطة تماس بين السياسي والأدبي. فالأدب استخدام خاص للغة، والنص الأدبي مجموعة من التراكيب اللغوية التي تعلق بعضها ببعض على نحو مخصوص، واللغة تتشكل أحيانا من أجل تحديد رسالة سياسية معينة. فالزخم الجمالي والموسيقي واللغوي الكامن في أي نص هو نفسه أيديولوجيا"، إذ أن الجانب الجمالي في النهاية هو تعبير عن موقف فكري معين، كما أن التصورات الأيديولوجية موجودة في مجال التعبير اللغوي ومحكومة بمنطقه. فاللغة أداة للتحكم بقدر ما هي أداة للإبلاغ، وعليه فإن الصيغ اللغوية تسمح بنقل المعنى، وفي الوقت ذاته، تسمح بتشويهه. وبهذه الطريقة يمكن التأثير السيئ في المستمعين وإعلامهم بالشيء ونقيضه، على السواء، أو لنقل، إنه يمكن تضليلهم، في الوقت الذي يعتقدون فيه أنهم يتلقون المعلومات الصائبة. ومن هنا تعد اللغة ذات طبيعة أيديولوجية. ومن ثم نظر بعض المفكرين العرب للأدب على أنه وسيلة مهمة؛ لبعث الروح القومية، والحفاظ عليها. لذا نجد أن مفكرا قوميا كبيرا، مثل ساطع الحصري، يطالب الأدباء بأن يتحملوا مسؤوليتهم تجاه المجتمع، ويؤمنوا بوحدة الأمة ولا يستسلموا لنوازع الإقليمية أو يندفعوا وراء فكرة العالمية، ويجندوا إنتاجهم الأدبي في خدمة القومية العربية. وشبه الحصري المنتوجات الأدبية من حيث تأثيرها الاجتماعي ببعض المصنوعات المادية، ورأى أن من الأدب ما يعمل عمل أسلحة الحرب والنضال، ومنه ما يعمل عمل آلات الحرث، ومنه ما يعمل عمل أدوات الزينة، مثل القلائد والأساور، ودعا الأدباء العرب لأن تكون كتاباتهم أسلحة في مواجهة أعداء الأمة، ومحاريث تساهم في زيادة إنتاجها وتقدمها.
ويقلب الخطاب السياسي الرسمي العربي في أغلبه تلك النصيحة، التي "تسيس الأدب" متكئة على اعتقاد جازم في التزام الأدب والأديب اجتماعيا وأيديولوجيا، ليرسم معالم مختلفة في "تأدب السياسة" متكئا على تصوره مفاده أن الكلمات ذات الجرس القوي، القادمة من قلب البلاغة العربية القديمة، يمكن أن تكون قذائف توجه إلى صدر الأعداء، في ممارستها للون من "الدعاية"، وبدرجة أكبر ستكون "معزوفة كلامية" تدغدغ مشاعر الجماهير، وتنفخ في أوصالهم، ليتحمسوا في صد العدو، وقت الحرب، أو لفت انتباه الجماهير الغفيرة بعيدا عن القضايا الواقعية الحقيقية، وقت السلم.