غلاف رواية "موت صغير".(أرشيف)
غلاف رواية "موت صغير".(أرشيف)
الخميس 1 يونيو 2017 / 20:35

"موت صغير" وسط العواصف

عدا قصّة الأوتاد الخمسة لا يتكشّف لنا أي من أسرار صوفيّة ابن عربي، ورغم جمال هذه القصّة وامتدادها فإننا لانشعر بالتجربة الصوفيّة

"موت صغير" التي فازت بجائزة بوكر للرواية لا تثير مسألة استحقاقها للجائزة من عدمه. الرواية سلسة جذّابة أنيقة رشيقة في انتقالاتها وتبويبها ممتعة بلغتها وحبكتها وسردها. كانت في مكانها كمرشّحة للجائزة، وفوزها بها لم يكن مستغرباً، وإن كان يطرح الأسئلة إيّاها التي يطرحها أيّ فوز، وهي أسئلة تتخطّى التقييم إلى عياره وأسسه ووجهته، فالجائزة التي نيّفت على عقد من الزمن استقرّت بدون شك على وجهة ما، أو آن لها أن تستقرّ.

الرواية تاريخيّة. إنّها قصّة المتصوّف الأشهر "ابن عربي" وقصّة ابن عربي، هي في الرواية تطوافه الذي لا يتوقّف بين الغرب والشرق والمغرب والمشرق. سياحة في أرض الله أكثرها اضطراري وبعضها طوعي، فإنّ من صفات المتصوّفة، كما نفهم من الرواية، هذه السياحة من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، وهذا المتاه في العالمين. الرواية إذن تحكي أسفاراً غير منقطعة وتجوالاً بين المناطق والبلاد، ولكل منطقة دولة وتاريخ وظرف وعلاقات، لكل دولة مناخ سياسي وديني وسياسي وحربي. لا بد من القول إنّ الرواية أحسنت في ذلك واجتهدت وأتقنت الحفر والنبش في غياهب التاريخ، هذا التوثيق التاريخي تمّ بدراية وحرفة بحيث خيّم التاريخ على الرواية، ومنحتها أجواؤه ديناميّة في السرد وإطارات غنيّة بالتفاعلات والمفاجآت ولوّنت السيرة وجعلت منها فضاءات مختلفة، ولعلّ هذه الأجواء التاريخيّة أضافت كثيراً إلى الرواية وأعطتها كثافة وعمقاً، بل هي التي منحتها مدى روائياً وجعلتها أكثر من سيرة، بل نقلت السيرة إلى مستوى الرواية. لقد أماطت الرواية هكذا عن تاريخ متنوّع متعدّد وهو إلى ذلك مغمور بحيث يحمل خزيناً روائياً وطاقات كامنة.

ابن عربي في الرواية له مغامرته. زوجته تهجره وهو يتنّقل بين أكثر من زوجة، غير أنّه مع ذلك لا يتحوّل إلى بطل عاديّ مغدور أو مخذول. لا نشعر به معانياً، إلاّ بمقدار بسيط، هجرة زوجته. يعاني أكثر من ذلك إذلالاً وسجناً ونبذاً وطرداً وسفراً متصّلاً، غير أنّه لا يتغيّر أو يتبدّل أو يتحوّل. يبقى هو هو، تمر به الأحداث "كلمى هزيمة" فلا تبدّل من طبعه ولا تكسر إرادته ولا تغيّر من مسار حياته، رغم أن محمد حسن علوان مؤلّف الرواية شاء أن يقدّم في روايته شخصاً تاريخياً واقعياً مجالداً دهره منتقلاً من مصيبة إلى أخرى، أي شخصيّة روائيّة حقيقية، غير أنّ هذا المرور السريع على مصائبه يجعله أقرب إلى السيرة من الرواية. الجوّ التاريخي عاصف مهتاج صاخب من عدّة جهات، بينما تبقى شخصيّة ابن عربي معلّقة بين السيرة والرواية، وحوادث حياته أيضاً معلّقة بين الأخبار والروايات والمغامرات. تبقى حياة ابن عربي أكثر من ترجمة وأقلّ من رواية.

ابن عربي مسافر شريد. هكذا تبدو الرواية ك"ألف ليلة وليلة" مجرى رحلات وأقاصيص تنداح أمام بعضها بعضاً وتتراكم فوق بعضها البعض من دون أن تجد ركائز ومحاور، فنحن أمام حبكة سيّالة ممدودة ، بحيث لانجد رسالة الرواية إلاّوهي مبعثرة متناثرة، ولا نقع بسهولة على قضية فيها. هذا الإندياح يخفي ما يمكن تسميته بالمسار الشعبي، الأمر الذي لا يتناسب مع موضوع الرواية، مع رواية متصوّف وشخصيّة مركزيّة في الفكر وأحد كبار المنظرين كإبن عربي، كان هذا ليصّح لو كانت الرواية حول شخصيّة أخرى تقبل بدون حرج هذا التمثّل الشعبي.

أن تكون الرواية عن ابن عربي فهذا يعني لعارفي ابن عربي ولعارفي الصوفيّة تجربة روحيّة مفعمة بالأسرار وبالرموز وبالعوالم الداخليّة. لا أظنّ أنّ "موت صغير" تعد بالكثيرمن ذلك.عدا قصّة الأوتاد الخمسة لا يتكشّف لنا أي من أسرار صوفيّة ابن عربي، ورغم جمال هذه القصّة وامتدادها فإننا لانشعر بالتجربة الصوفيّة. لا نشعر برمزيتها وأسرارها، بخصوصيتها وداخلها ونسيجها الوجداني. ثمّ إنّ لغة الرواية الموغلة في فصاحتها والتي كانت بالتأكيد من عوامل فوز الرواية، ليست مع ذلك روائية، قد يظن البعض أنّها تناسب رواية عن ابن عربي وأنها تلقي ضوءاً عليه وتصلنا به. أقدّر هذا الإحساس لكنّه لا يبدل رأيي في أنّ لغة القصة لا تكون من أوابد اللغة.