مدينة سانت بطرسبورغ.(أرشيف)
مدينة سانت بطرسبورغ.(أرشيف)
الخميس 22 يونيو 2017 / 21:45

في مديح سانت بطرسبرغ.. الفضاء الباذخ ثقافياً

بدأوا بناء المدينة، ولكن في كلّ مرة يضعون حجرًا، يبتلعه المستنقع، يرصون حجرًا على حجر، صخرة على صخرة، عمودًا على عمود، غير أنَّ المستنقع يبتلعهم وعلى السطح لم يكن سوى الطمي

رغم حداثة هذه المدينة الروسية تاريخياً؛ إذ يعود تأسيسها إلى أوائل القرن الثامن عشر في عهد القيصر الروسي بطرس الأول، إلا أنها استطاعت أن تحفرَ لنفسها بصمة ثقافية استثنائية عريقة ومتميزة تضاهي بها مدناً أكثر عراقة منها مثل باريس على سبيل المثال.

إنَّ هذه المدينة التي جعلها القيصر بطرس الأول نافذته الثقافية المطلة على أوروبا، كانت بالفعل الجسر الثقافي الموصل من روسيا إلى عواصمَ أوروبية في غاية الأهمية والعراقة التاريخية والثقافية. والتأثيرات الأوروبية في العمارة الروسية في هذه المدينة واضحة جداً، خاصة طراز الباروك الفرنسي والإيطالي، بل إنَّ ثمَّة صلة وثيقة ربطت بين روسيا وفرنسا في القرون الأخيرة إلى الحد الذي كانت فيه تربية الطبقة الأرستقراطية الروسية من النبلاء تعتمد اللغة الفرنسية والبروتوكول الفرنسي في التعامل وفي الذائقة الثقافية. وكدلالة على أهمية تلك الصلات الثقافية بنى القيصر الروسي الكساندر جسرًا في باريس مطلياً بالذهب، وهو الجسر الذي يُطلق عليه تسمية "جسر الفنون"، ويُعد أبرز المعالم السياحية الثقافية في باريس. إنَّ هذه المدينة تحتوي على أكبر متحف في العالم يضم لوحات فنية شهيرة هو متحف "الإرميتاج"، وهو يضاهي متحف اللوفر الفرنسي ويتفوق عليه في عدد اللوحات المعروضة فضلاً عن عشرات المتاحف الأخرى مثل متحف الشوكلاتة.

كتب الناقد السيميائي الروسي الشهير يوري لوتمان عن رمزية هذه المدينة وذلك في كتابه "سيمياء الكون". إذ تشتمل هذه المدينة كما يرى على بعدين ثقافيين، البعد الأول المدينة اليوتوبيا، وهي المدينة التي شُيِّدَت بصفتها تحدياً للطبيعة وبوصفها انتصاراً للعقل على العناصر، والبعد الثاني هو الأساطير الأخروية للمدينة، تنبؤات الخراب وتنبؤات الهدم وحلول الطوفان (المدينة اللعنة). إنَّ مدينة سانت بطرسبورغ كما يرى لوتمان مدينة تتحدَّى آليات الزمن لأنَّها آلية سيميائية مركبة موِّلدة للثقافة، ولكنها لا تقوم بهذه الوظيفة إلا في الحالة التي تمثّل فيها بوتقة لنصوص وأسنن مختلفة وغير متجانسة هجينة ثقافياً.

ورغم حداثة إنشاء هذه المدينة إلا أنَّ ثمَّة تاريخاَ ميثولوجياً أي أسطورياً، ارتبط بها منذ عهد التأسيس، والنشأة الأولى تشكَّل في مئات الأساطير والروايات الشفاهية التي رافقت مدينة سانت بطرسبورغ التي تحتمل هذه الثنائية المتناقضة (المدينة الجنة اليوتوبيا/ والمدينة اللعنة). هي المدينة الاصطناعية التي جاءت في غاية التكوين الأسطوري! يقول أودوفسكي عن قصة إنشاء هذه المدينة: "بدأوا بناء المدينة، ولكن في كلّ مرة يضعون حجراً، يبتلعه المستنقع، يرصون حجراً على حجر، صخرة على صخرة، عموداً على عمود، غير أنَّ المستنقع يبتلعهم وعلى السطح لم يكن سوى الطمي. أثناء هذا الوقت كان القيصر يشيّد مركباً، ثم أتى زائراً: رأى أنَّ مدينته لا تنهض أبداً من الأرض "لاتعرفون فعل أي شيء"، يقول لشعبه، وعلى إيقاع هذه الكلمات بدأ يرفع الصخرة ويقوم بتجميعها في الأجواء، بهذه الطريقة بنى المدينة برمتها، وبعد ذلك وضعها أرضاً".

يقول لوتمان عن الفضاءات المشهدية الطقوسية لهذه المدينة الثقافية "خاصية أخرى لبطرسبورغ هي تمسرحها، معمارية المدينة، الفريدة من نوعها بتماسك تجمعاتها الشاسعة التي لا يمكن أن تُقسم إلى بنايات لمراحل مختلفة كما هو الحال بالنسبة للمدن التي لها ماضٍ تاريخي، توِّلد الانطباع التام بأننا أمام ديكور مسرحي، هذه الخاصية تثير انتباه الأجانب وسكان موسكو على السواء. وإذا كان هؤلاء يعتبرون المدينة "أوروبية" فإنَّ الأوروبيين الذين اعتادوا التراكب الهندسي للطرز الرومانية والباروكية والكوتيك والكلاسيكية يظلون مندهشين من الجمالية الأصلية والغربية لهذه التجمعات الشاسعة".

وإذا كان للتسمية نسق ثقافي عميق جداً فإنَّ هذه المدينة الحديثة نسبياً في التاريخ خضعت إلى تغيير في التسمية من سانت بطرسبرغ الذي اعتبر اسماً ألمانياَ إلى بيتروكراد سنة 1914ـ 1924 ثم إلى لينينغراد بعد وفاة لينين ثم عودتها إلى اسمها الأصلي بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي وبعد استفتاء شعبي بين سكان المدينة.

هذه كانت رؤية نقدية ليوري لوتمان تبرز وبعمق كبير التداخل بين الدراسات النقدية وأنواع أخرى من الاختصاصات مثل الانثربولوجيا والعمارة والجغرافيا والتاريخ والآداب.

لقد أصبحت هذه المدينة الاستثنائية ثقافياً منذ عام 1830 مدينة للتناقضات الثقافية وذات قوة استثنائية ضاربة، مدينة تمتلك ذاكرة ثقافية فريدة لا تليق سوى بسانت بطرسبرغ!