صحف يومية.(أرشيف)
صحف يومية.(أرشيف)
الإثنين 26 يونيو 2017 / 19:58

دراما العناوين

من سوء حظ الأستاذ الشيتي أن خطاط صحيفته كان مدمناً على الكحول ولا يستطيع التركيز، فصدرت نسخة الصحيفة بعنوان يقول "ناصر يلتقي دواب الشمال"!

غالباً ما يدل عنوان الخبر المنشور على هوية الصحيفة أو الموقع أو القناة، أكثر مما يدل على مضمون الخبر نفسه. وقد تعود القارئ والمشاهد العربي على قراءة ومشاهدة العناوين الموجهة التي توظفها المنابر لخدمة حملاتها التحريضية وترويج رؤاها وسياسات رعاتها.

لذا يبدو صعباً الاكتفاء بالعناوين لفهم التفاصيل ومعرفة حقيقة ما يجري في بلادنا، ولعل قصة الموصل توضح ما أعني، حيث تتبنى المنابر الإعلامية الرسمية وتلك الناطقة باسم الطائفة الحاكمة رواية الحكومة، فتركز في عناوينها على "اجتياح قوات الجيش والحشد الشعبي مناطق في أطراف الموصل"، بينما تركز المنابر المؤيدة لتنظيم "داعش" والمعادية للطائفة الحاكمة على "نجاح تنظيم داعش في وقف الاجتياح وعجز الجيش والميليشيا عن التقدم نحو قلب المدينة".

ربما لهذا السبب يكتسب جهاز الريموت كونترول قيمة إضافية، حين يجعل التقليب بين القنوات مهمة سهلة، لكنها ضرورية لرؤية صورة الحدث كاملة، من خلال تجميع أجزائها المتناثرة في القنوات المختلفة.

خلال قرابة أربعة عقود من العمل الصحفي عرفت الكثير من أساليب العنونة ومدارسها، وصرت أميز بين العنوان الباهت والعنوان الراقص والعنوان الصادم والعنوان الساذج.

وعرفت أيضاً أن العنوان لا يمكن أن يكون موضوعياً ومهنياً بالمطلق لأن من يصيغه هو إنسان يتأثر بهواه وميوله، ومن ينشره أو يبثه مؤسسة محكومة بسياسات تحريرية ملزمة.

ولعل قدرتي على فهم الفروق بين هذه السياسات هي ما ميزني بين أقراني من المحررين في غرف الأخبار في أكثر من صحيفة وموقع وقناة. وربما ساهم حبي للغة في منحي لقب "الجرافة" حين كنت أضع العناوين وأصحح ما يجيء منها قبل الطباعة لأضبط الإيقاع بحسب إدراكي لسياسة المؤسسة، وهذا ليس اعترافاً جريئاً، بل واقع الحال بالنسبة لرؤساء ومدراء التحرير في كل المنابر الإعلامية في بلادنا وفي بلاد الله الواسعة حيث تظل حرية الإعلام مجرد شعار لا يمكن تطبيقه.. وفي هذه الحالة لا فرق كبيراً بين الإعلام السوري والإعلام البريطاني مثلاً.

أعود إلى دراما العناوين لأتذكر قصة طريفة للصحفي الراحل الأستاذ عبد الله الشيتي يرحمه الله، حين كان في سنوات الخمسينات والستينات يعمل رئيساً للتحرير في صحيفة يومية سورية في زمن الوحدة بين سوريا ومصر. وقد زار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر دمشق واحتفت الصحف بهذه الزيارة التاريخية وتسابقت في تغطيتها، وتميزت كل صحيفة بعنوانها الخاص.

زار عبد الناصر مجلس النواب السوري في الإقليم الشمالي لدولة الوحدة "الجمهورية العربية المتحدة"، وغطت الصحف هذه الزيارة، وكان العنوان الذي كتبه الأستاذ الشيتي لصحيفته "ناصر يلتقي نواب الشمال"، وكانت الصحف في ذلك الوقت توظف خطاطين لكتابة العناوين الرئيسة، ومن سوء حظ الأستاذ الشيتي أن خطاط صحيفته كان مدمناً على الكحول ولا يستطيع التركيز، فصدرت نسخة الصحيفة بعنوان يقول "ناصر يلتقي دواب الشمال"!

ولكي تكتمل دراما المشهد فإن الشيتي لم ينتظر رؤية النسخة الأولى في المطبعة، واختار أن يعود إلى بيته قبل الطباعة، ليفاجأ بزوار الفجر يطرقون بابه ويعتقلونه ثلاثة أيام تعرض فيها لكل أنواع الإهانة قبل أن تتبين السلطات أن الخطاط هو المحطئ وأنه هرب من دمشق إلى بيروت.

اعتذر وزير الإعلام للشيتي الذي أطلق سراحه وعاد إلى صحيفته، لكن الدراما لم تتوقف عند ذلك، فبعد وقت قصير من هذه التجربة المؤلمة سقطت دولة الوحدة ووقع الانفصال الذي رأى أقطابه وقادته أن الشيتي كان أحد أبطاله فكافأوه بتعيينه مديراً للإذاعة السورية!

أتذكر ذلك وأنا أقرأ نسخة من صحيفة عربية صدرت أمس بعنوان "عيد الفطر اليوم". شكراً لتذكيرنا فربما نكون نسينا موعد العيد.