احتفال صيني بالذكرى العشرين لتسلم هونغ كونغ من بريطانيا.(ارشيف)
احتفال صيني بالذكرى العشرين لتسلم هونغ كونغ من بريطانيا.(ارشيف)
الأربعاء 5 يوليو 2017 / 20:43

لكنْ لمن ننتمي؟

ما يناقشه سكّان هونغ كونغ اليوم سبق للأوروبيّين أن ناقشوه، حين أملى الخلاف الفرنسيّ – الألمانيّ حول ألزاس – لورين انشقاقاً داخل فكرة القوميّة

في مثل هذه الأيّام قبل عشرين عاماً، والتزاماً منها بتعهّد سابق قطعته، سلّمت بريطانيا مستعمرتها هونغ كونغ إلى جمهوريّة البرّ الصينيّ. هذا الحدث كان، ولا يزال، مهمّاً لأسباب عدّة منها السياسيّ والاستراتيجيّ، الاقتصاديّ والثقافيّ. لكنّ أحد الأسباب إنّما يتجاوز الصين نفسها إلى تصوّرات عامّة في النظريّة والفكر السياسيّين.

فقد أجرت الصحف البريطانيّة – في استعادتها للذكرى – عدداً من المقابلات مع هونغ كونغيّين متعدّدين في الجنس والجيل والطبقة الاجتماعيّة، وقد سألتهم فيها عن آرائهم في الوحدة التي تحقّقت عام 1997. لكنْ كان أكثر ما يلفت في الإجابات انشداد أصحابها إلى نظريّتين متضاربتين:
فمنتقدو تلك الوحدة، ممّن كانوا يفضّلون البقاء في ظلّ الحكم البريطانيّ، ركّزوا على فكرة الحرّيّة والخيار الحرّ. ذاك أنّ الإرادة الشعبيّة وتصوّر المصالح الذاتيّة هما ما يحدّدان الهويّة الوطنيّة، بحسب من يُعرفون بأنصار الديمقراطيّة في هونغ كونغ. وهؤلاء يرون أنّ الحرّيّة والديمقراطيّة إنّما تراجعت أحوالهما مع الانتقال من نظام الحكم البريطانيّ إلى نظام الحزب الواحد الحاكم في الصين. صحيح أنّ الأخيرة، وعملاً بتعهّدها للبريطانيّين أنّها ستُبقي على مبدأ "النظامين في دولة وحدة"، مضت تعامل سكّان هونغ كونغ بأفضل ممّا تعامل سكّان البرّ الصينيّ، متيحةً لهم فسحة أكبر من الحرّيّات، بيد أنّ هذا لا يكفي. ذاك أنّ هذه الفئة العريضة من الهونغ كونغيّين، التي ذاقت حلاوة الحكم الديموقراطيّ طويلاً، لن تجد ما يُغريها في كونها "أفضل" من ملايين سكّان البرّ الذين عانوا الشيوعيّة طويلاً. المهمّ والمعيار لديها هما أن تختار وضعها وتقرّر مصيرها في معزل عن أوضاع "الآخرين".

لكنّ النظريّة الأخرى التي يتمسّك بها دعاة البقاء في الصين مفادها أنّنا صينيّون، وما دمنا كذلك فإنّ المنطقيّ والطبيعيّ هو أن نكون جزءاً من الصين.
وغنيّ عن القول إنّ هذه النظريّة الأخيرة تندرج في نطاق الرؤية القوميّة الكلاسيكيّة. وهي أيضاً تتمتّع بالبساطة التي تنطوي عليها تلك الرؤية.
فإذا كانت النظريّة الأولى تمنح أولويّتها لما يقرّره البشر ولما يصنعونه بأنفسهم، تبعاً لتقديرهم طبيعةَ مصالحهم وحرّيّاتهم، فإنّ النظريّة الثانية تعوّل كلّ التعويل على العناصر الطبيعيّة الموروثة، والتي ليس للإنسان دخل فيها: الموقع الجغرافيّ، اللغة إلخ...

والحال أنّ التطوّرات التي شهدها العقدان الماضيان قدّمت الدعم والحجج لأنصار كلّ من الطرفين: فجماعة الحرّيّة والخيار بدأوا يستثمرون التردّي الذي ضرب مصالح الهونغ كونغيّين حين كفّت جزيرتهم عن أن تكون بوّابة الصين على العالم الخارجيّ. هذا الواقع الذي نشأ مع وحدة 1997 واستمرّ في العمل لسنوات قليلة غيّرته التطوّرات الاقتصاديّة التي حرّرت البرّ الصينيّ من الحاجة إلى "بوّابة". في المقابل، وجد دعاة الوحدة والصين الواحدة ما يدعمهم في تراجع الاهتمام الغربيّ بمسائل الديمقراطيّة وحقوق الإنسان في الصين، بنتيجة الاضطرار إلى مسايرة العملاق الاقتصاديّ والتجاريّ الصينيّ.

كائناً ما كان الأمر، فإنّ ما يناقشه سكّان هونغ كونغ اليوم سبق للأوروبيّين أن ناقشوه، حين أملى الخلاف الفرنسيّ – الألمانيّ حول ألزاس – لورين انشقاقاً داخل فكرة القوميّة: هل تعود الأولويّة للأرض واللغة، كما أكّد الألمان، أم تعود إلى الخيار الذي يختاره الشعب، كما رأى الفرنسيّون؟
وبدورهم لم يكن عرب الأربعينات والخمسينات بعيدين عن هذا السجال، على ما تدلّ، مثلاً لا حصراً، كتابات تركها طه حسين وساطع الحصري وسواهما. بيد أنّ المساجلة الهونغ كونغيّة تكتسب أهميّتها من أنّ السؤال لا يزال مطروحاً إلى يومنا هذا: لمن ننتمي؟