جنود عراقيون يحتفلون بتحرير الموصل.(أرشيف)
جنود عراقيون يحتفلون بتحرير الموصل.(أرشيف)
الأحد 9 يوليو 2017 / 20:03

سؤال ما بعد الموصل

رغم اختطاف الدواعش، وأمثالهم، لثورة السوريين على نظام آل الأسد، إلا أن المظالم التي دفعت السوريين للمطالبة بالحرية، والتمرّد على نظام مُستبد، لا زالت قائمة

 الهيدرا في الميثولوجيا الإغريقية القديمة أفعى مائية متعددة الرؤوس، إذا قُطع رأس منها نبت مكانه اثنان، وهي تنفث السم القاتل، ويمكن لرائحتها، عن بعد، أن تكون مميتة، أيضاً. تقول الأسطورة: بعد محاولات فاشلة، تمكّن هرقل، بمساعدة قريبه إيولاوس، من القضاء عليها، فكان الأوّل يقطع الرأس بسيفه، والثاني يكوي مكان القطع بشعلة من النار لكي لا ينبت رأس جديد.

ولا يبدو أن ثمة صورة مجازية تختزل حقيقة الوحش الداعشي، وكيفية مجابهته، أفضل من أسطورة الهيدرا. هذا ما ينبغي أن يُقال، اليوم، بعدما قُطع رأسه في الموصل العراقية، بعد ثمانية أشهر من القتال الضاري، وعشيّة قطع رأسه في الرقّة السورية بعد أسابيع، وربما بعد أشهر قليلة.

بهذا المعنى، يتضح أن القضاء على الوحش الداعشي القاطن في الظلال، الهلامي الجسد، والمتعدد الرؤوس، لا يتم بالضربة القاضية في لحظة معيّنة، بل بالنقاط، على مدار سنوات قد تطول أو تقصر، ومراكمة انتصارات، وتسديد طعنات سريعة ومتلاحقة في مناطق مختلفة من العالم.

وبهذا المعنى، أيضاً، ولا يمكن التحقق من القضاء على الوحش بصورة نهائية، وحاسمة، ما لم تتبلور في سياق الحرب عليه استراتيجيات أمنية، وسياسية، واجتماعية، وثقافية لكي لا تنبت رؤوس جديدة مكان التي قُطعت للتو.

لذا، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعراق، لن يكتمل تحرير الموصل من قبضة الوحش الداعشي، ولن تصبح الطريق إلى عراق ينهض من تحت الأنقاض، آمنة، ما لم تتم معالجة أسباب الاحتقان الاجتماعي والسياسي والطائفي، التي مكّنت الوحش من إيجاد موطئ قدم هناك. فمعالجة الأسباب، تقوم مقام الكي بالنيران في الأسطورة الإغريقية القديمة. وهذا يصدق، أيضاً، على سوريا.

يُسهل الكلام عن أشياء كهذه في معرض التحليل والتأويل، ولكن ثمة عقبات وتعقيدات تعترض طريقها، ولعل أبرزها حقيقة أن للقوى التي وحّدها، ويُوحّدها، القتال ضد الدواعش أجندات ومصالح متنافرة، وعلاقات إقليمية ودولية لا تقل تنافراً. وهذا أحد الأسئلة العراقية المفتوحة والكبيرة في مرحلة ما بعد الموصل.

في السياق نفسه، وعلى الرغم من اختطاف الدواعش، وأمثالهم، لثورة السوريين على نظام آل الأسد، إلا أن المظالم التي دفعت السوريين للمطالبة بالحرية، والتمرّد على نظام مُستبد، لا زالت قائمة. وما لم تُعالج الأزمة من جذورها، وبطريقة تضمن العدالة السياسية والاجتماعية، ومحاسبة النظام الذي لا يقل دموية عن الدواعش، سيظل الصراع في سورية وعليها مشرّع الأبواب.

بيد أن المشكلة مع الوحش الداعشي تتجاوز المسرحين العراقي والسوري، لتتجلى كمشكلة حقيقية على صعيد العالم. فقد تعرّضت بلدان غربية وعربية مختلفة لهجمات إرهابية مُوجعة، منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، التي افتتحت بها القاعدة (أم الدواعش) موجة الإرهاب المعولم الجديدة.

لذا، ينبغي التذكير أن ما يأتي في ركاب الوحش الداعشي من بلاء ودماء يصح كوسيلة إيضاح لمعنى الشر العدمي المُطلق، الذي لا يخاصم العالم، ولا يشن الحرب عليه، تعبيراً عن رؤية سياسية واجتماعية معارضة ومُغايرة، بقدر ما يسعى لتدمير هوية وماهية الدولة والمجتمع، ومعهما كافة التجليات الاجتماعية والسياسية والثقافية للأزمنة الحديثة.

وإذا كان ثمة ما يبرر الفرح بتحرير الموصل، ثمة ما يبرر، أيضاً، التذكير بالثمن المُرعب الذي دفعه العراق والعراقيون. لا توجد حتى الآن إحصاءات دقيقة لعدد القتلى والجرحى والمشرّدين على مدار ثمانية أشهر من القتال في الموصل، ومن المؤكد أننا يجب أن نحسب بمئات الآلاف، ناهيك عمّا لحق بالبنية التحتية، والمعالم الحضارية للمدينة من هلاك ودمار. ثمة، أيضاً، ما يستعصي على الحساب والأرقام، أي المعاناة الإنسانية، وما تنطوي عليه من جراح نفسية واجتماعية لن تندمل في وقت قريب.

هل كان من الممكن تفادي هذا كله؟

السؤال الأهم الآن: هل يمكن لهذا كله أن يقرع ما يكفي من أجراس الإنذار، لتذكير صانعي السياسة، هناك، بحقيقة أن قطع رأس الوحش حتى وإن كان بحجم ورمزية مدينة كالموصل، لا يكفي ما لم ترافقه، وتعقبه، استراتيجية واضحة لمعالجة الاحتقان الذي مكّن الوحش من العثور على موطئ قدم، والقيام بما يلزم لكي لا تنب رأس جديدة في مكان آخر؟ وهذا، بعد تحرير الموصل، أهم سؤال.