الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.(أرشيف)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.(أرشيف)
الإثنين 10 يوليو 2017 / 21:46

التعدد الإسلامي

أوغل الإسلام في التعدّد وبات محلّ مناظرة فكريّة وسجال عقائديّ نتج عنهما إتجّاهات غزيرة ونقاش حول المتون والهوامش، وبالطبع كلام وسياسة وقواعد وأنظمة

تستدعي هذه العبارة تاريخاً كاملاً. لقد تفرّع الإسلام منذ البداية، وعاد وانقسم على مدار التاريخ ولا يفوتنا أن نرى التفرّع والإنقسام على أبواب القرن العشرين. في البداية، كانت القسمة بين البيت النبويّ وسواه قبل أن تتفرّع إلى سنّة وشيعة وإسماعيليّة ومذاهب أربعة، وبالطبع تأسست على ذلك أنظمة فكريّة وعقائد وبنى نظريّة وفكريّة وإتجاهات فقهيّة وكلاميّة وشبه فلسفيّة. لقد أوغل الإسلام في التعدّد وبات محلّ مناظرة فكريّة وسجال عقائديّ نتج عنهما اتجّاهات غزيرة ونقاش حول المتون والهوامش، وبالطبع كلام وسياسة وقواعد وأنظمة، لكن هذا الانقسام الذي كان أحياناً عميقاً وعضويّاً وهيكليّاً دخل في الركود الذي شمل التاريخ الإسلامي بجملته بعد الحقبة الأولى وحوّله إلى تكرار وتعقيبات وشروح فحسب. لقد دخل في الحلقة المفرغة التي تتردد بين الاتّباع والابتداع، بحيث تحوّل الجميع إلى تلامذة يعملون على درس جاهز ويشرحون كلاماً جاهزاً ويعيدون متوناً ثابتة ويتلقنوّن ويلقّنون ويغيّبون نصوصاً بحرفها ومؤدّاها.

هكذا وصلنا إلى أجيال التلامذة والملقّنين والحافظين والشارحين. هكذا يمكننا الكلام عن ثقافة موقوفة وعن تاريخ موقوف. ثمّ أن هذا التاريخ كان أيضاً تاريخ اتبّاع ومثله مثل الاتبّاع في شتّى المذاهب وشتّى الفرق كان نوعاً من التقليد والتكرار، أي ما يعارض البحث والتعمق والدرس. هكذا لم تحظ تلك الحقب على سعتها وتطاولها بأي إضافة نوعيّة، لم تحظ بأطروحات جديدة ولا ابتكارات من أيّ مستوى، لم تحظ بسجال يضيف ويصدم ويواجه. لقد خيّم قروناً نوع من الخدر والبيات الفكري والعقلي.

يمكننا أن نلاحظ تمجيد القديم في مختلف أدبيات العرب، بما في ذلك تلك الّتي جاءت بعد الإسلام، فقد نتفاجأ من أن نقرأ لشاعر ريبي يقارب الإلحاد كأبي العلاء المعري شعراً يفاخر فيه بأنّه رغم حداثة زمانه يأتي "بما لم تستطعه الأوائل". كان الماضي، بالنسبة للعرب، هو الطوطم والمثال. هكذا انقضت قرون في عبادة الماضي. يمكننا أن نعتبر ذلك طبعاً متوارثاً ومزاجاً عاماً وتقليداً. الأرجح أن خليّة كهذه بقيت في السليقة العربيّة، وأن الرجوع إلى الماضي ظلّ طبعاً عاماً وحساسية تتحدّر من الأجداد للأحفاد بدون انقطاع، لكنّ الأمر لا يغدو عائقاً ومرضاً إلاّ بمقدار ما يصبح انعزالاً عن الزمن و تفكيراً لا يتناسب مع العصر وعيشاً على طواطم مجرّدة وأصنام لفظيّة، وانفصالاً عن الواقع لحساب أطروحات متجمّدة، الأمر لا يتحوّل إلى تخلّف إلاّ بالقياس إلى عصره. عندئذ فقط يبدو الركود والتكراريّة والاتّباع تأخّراً وانفصاماً عن الواقع. عندئذ لا يعود الفكر جواباً على تحديّات ملموسة ومسائل راهنة، بل هو نسيان لكلّ ذلك وانحراف عنه وتمويه له.عندئذ يصحّ الكلام عن رجوع إلى الوراء، لا بالمعنى المجازي ولكن بالمعنى الكمّي والتفصيلي والمادّي للكلمة، والأرجح أننا اليوم في هذا المنقلب، الأرجح أننا اليوم لا نفكّر بمشاكلنا بل نسعى إلى البحث عن عناوينها وحدودها في الموروث بعد أن يكون هذا قد ابتذل قرناً بعد قرن، وتحول مع الأياّم إلى تعاليم صرفة وإلى رطانات وكلام خشبي، وباختصار نحن اليوم بدون رؤى وبدون نظر من أي نوع، أي بدون فكر متحرّك وحيّ.

نفهم من الانتفاضات الأخيرة أنّ القهقرى هي تقريباً في كلّ شيء، وأنّ ما يطفو أو يخرج إلى السطح لا نهاية لطبقاته ولحلقاته. لقد طرحت على الواقع أسئلة من زمن لا يتعيَّن، إنّه زمن مطلق ولا مواقيت لأسئلته ولا حدود لها. إنّها أسئلة لا واقع لها ، ويصادف أنّها جميعها تنتسب إلى إسلام لم يبق غيره في الساحة سوى ما راكمت عليه ظروف لم تتزمّن، وما يستخرج بالعسف والتأويل من متونه وهوامشه، لكن الإسلام بقي وحده أو ادعّاه الجميع. ولأنّ العودة إليه فرض. استبشرنا حين قامت أو تقوم حركات إسلاميّة معاصرة، أو تمتّ إلى ثقافة العصر ومسائله، كما حصل مع قيام العدالة والتنمية في تركيا باعتباره حزباً ديموقراطياً في نظام علماني، غير أن ّانقلاب أردوغان وتأبيده لنفسه خيّب أملنا في إصلاح إسلامي. رغم ذلك يبقى هذا الأمل محوريّاَ وأساسياً.