تركيب بوابات إلكترونية على مدخل المدينة القديمة في القدس.(أرشيف)
تركيب بوابات إلكترونية على مدخل المدينة القديمة في القدس.(أرشيف)
الخميس 20 يوليو 2017 / 20:12

أكثر من مدينة مقدسة

لا خيارات في هذه المواجهة إلا هزيمة العنصرية الاسرائيلية التي تجمعت كاملة خلف نتانياهو

انفتحت المواجهة في القدس على مصراعيها، لم يعد ممكناً تأجيلها، خطأ التأجيل الذي ظهر للمرة الأولى في اتفاقيات أوسلو وتواصل إلى الآن، راكم أخطاء جسيمة ومنح الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وقتاً كافياً لمواصلة مشاريع تهويد المدينة وحصارها وعزلها عن محيطها عبر استكمال حائط الكتل الاستيطانية، وآخرها ما أعلنته حكومة "نتانياهو" هذا الأسبوع من الشروع في بناء مستوطنة جديدة تضم (1100) وحدة تعزل القدس عن رام الله.

خلال سنوات "التأجيل" الطويلة جرى تحويل حاجز قلنديا الذي يفصل المدينة المقدسة عن شمال الضفة إلى معبر حدودي عسكري، في الداخل تم ضرب النظام التعليمي عبر إفقار مدارس الأوقاف والأونروا والسلطة والمدارس الخاصة وتغيير المناهج وإلحاق الكثير من المدارس بنظام بلدية الاحتلال.

كما يتواصل حصار شبكة المشافي والنظام الصحي (المقاصد والمطّلع)، ودفع المؤسسات الثقافية للهجرة أو الإغلاق من خلال الضغوط الأمنية وإغراقها بالضرائب، إضافة إلى حملات مصادرة العقارات أو تسريبها أو الاستيلاء عليها ببساطة عبر أوامر عسكرية، إلى آخر مظاهر هذه السياسة التي تصب في النهاية في تفكيك الهوية العربية للمدينة.

"تأجيل" البحث في ملف القدس، الصيغة الباهتة التي جرى التعامل بها مع شأن "العاصمة" كما يحب الفلسطينيون الإشارة لها في حديثهم، كان يمكن التعايش معها في ظل وجود شروط من نوع: عدم إجراء أي تغييرات تؤثر على هوية المدينة، ومشاركة أهلها في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الفلسطينية، وهو ما جرى في انتخابات 1996، ووجود سقف زمني للمفاوضات. والأهم هو وجود قيادة وطنية ومؤسسات ذات جذور عميقة وبرامج وطنية واضحة، أتحدث عن الشهيد فيصل الحسيني وبيت الشرق. كان فيصل الحسيني إحدى الضمانات الأساسية التي تمتلك الى جانب بوصلتها الوطنية حضوراً شعبيا يقترب من الاجماع وحضوراً دوليا واسعاً ومؤثراً. برحيل فيصل واغلاق بيت الشرق أصبح "التأجيل" واقعاً، وبدا أن المدينة تقاوم وحدها.

لم تتوقف "القدس" عن المقاومة وكانت تجد في كل مرة وسائلها وطرائقها الخاصة في مواجهة مشاريع التهويد المتلاحقة، وهو ما تفعله الآن، ولكنني أتحدث بأكبر قدر من الوضوح عن افتقادها للمرجعية السياسية القادرة على استثمار هذه التضحيات والصبر ونفس المقاومة الطويل.

الأمر يمتد إلى الاهمال، غير المفهوم وغير المبرر، لجوانب الحياة اليومية للناس، لحركة الأسواق والاقتصاد والتعليم والصحة والمؤسسات المجتمعية والثقافية والعمل مع شريحة الشباب، لقد تم عزل المدينة في "قداستها" والاكتفاء بالدعاء والدعوة والتحريض، دون النظر الجدي أو بذل الجهد المخطط لإسناد الحياة نفسها والناس الذين تتوجه نحوهم الدعوات بالمقاومة.

هذه النظرة المجردة لـ"القدس" ساهمت أيضاً في عزل وحصار وافقار المدينة، والتي بلغت ذروتها في فتوى يوسف القرضاوي، الغريبة فعلاً، بتحريم زيارتها للعرب والمسلمين، ما يعني ركود أسواقها ومصادر المعيشة التي يعتمد عليها أهلها، وإلقاء أعباء مواجهة الاحتلال وحماية "المقدسات" والبطالة والقسوة المتصاعدة للأوضاع المعيشية والحياتية كاملة على أكتاف المقدسيين.

قد تبدو المعركة مع "البوابات" الإلكترونية التي ثبتتها شرطة الاحتلال على أبواب الحرم القدسي، باب الأسباط والسلسلة والمجلس، والصلاة على بلاط أزقة المدينة القديمة تفصيلاً، ولكنها الخطوط التي يرسمها الناس بعفويتهم وإيمانهم البسيط العميق للمواجهة.

سيقفز على الأحداث انتهازيون كثر، فصائل فقدت جدواها، قوى مأزومة في البلاد وفي الإقليم، ستجد في المواجهة وسيلة للخروج من عزلتها، وسيحاول الكثيرون وضع رؤوسهم في الرمال الى أن تنتهي العاصفة، وسيتذاكى آخرون في البحث عن مساومات وحلول موقتة أخرى، ولكن السيل العريض من الوطنية الفلسطينية سيكون التيار الرئيسي.

من لا يشارك في هذه المواجهة سيكون خارج الحساب.

لا خيارات في هذه المواجهة إلا هزيمة العنصرية الاسرائيلية التي تجمعت كاملة خلف نتانياهو.

انفتح الملف "المؤجل"، وستدخل المواجهة إحدى محطاتها غداً الجمعة، قراءات خاطئة وتقارير ساذجة هي التي دفعت شرطة الاحتلال لوضع تلك البوابات وفتح المواجهة مع المدينة العربية.

خطأ في المكان وخطأ في التوقيت وخطأ في الوسائل. لأول مرة منذ وقت طويل يتوحد الناس ببوصلتهم الفطرية خلف شعار وطني بسيط وواضح. شعار شارك في رفعه الجميع، جاء من قلوبهم وليس من تصريحات الفصائل أو القوى بأصنافها والسلطة ب"دبلوماسيتها" الهادئة حد الموت.