الإثنين 31 يوليو 2017 / 20:32

السفير العتيبة والحكومة العلمانية

أتابع بصورة مستمرة اللقاءات التلفزيونية التي يكون ضيفها سفير الإمارات الشقيقة في واشنطن، يوسف بن مانع بن سعيد العتيبة، فهو شخصية مثيرة وجديرة بالمتابعة، ولأنه أنموذج بارز من جيل القيادات الخليجية الشابة التي تشكّل خطاً جديداً في سياسة المنطقة ونظرتها المستقبلية. منذ أيام تناقل الإعلام القطري خبراً عن السفير العتيبة أنه قال لقناة بي بي إس "لو سألت الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين، ما هو الشرق الأوسط الذي يريدون رؤيته بعد 10 سنوات من الآن، فسيكون متعارضاً في الأساس لما أعتقد أن قطر تريد رؤيته بعد 10 سنوات من الآن. ما نريد أن نراه هو حكومات علمانية مستقرة مزدهرة وقوية".

بطبيعة الحال، استغلت القنوات والصحف القطرية هذا الحدث، ومن ورائها عشرات من قنوات اليوتيوب الإخوانية بوجوهها الكالحة، وما لا يحصى من الحسابات على شبكات التواصل الاجتماعي، كالعادة، للطعن في العلاقة القائمة بين السعودية والإمارات، هذه العلاقة الاستراتيجية الراسخة التي يبدو أنها أصابت البعض بالجنون. لقد اعتبروا، أو أرادوا أن يكذبوا ويصدّقوا أنفسهم، بأن السفير العتيبة كان يفرض رأيه على تلك الدول التي ذكرها. رغم أن حديثه واضح لا يحتاج لشروحهم، فالسفير كسياسي محنك، يملك قدرة مميزة على التحليل السياسي، وقراءة الواقع، تحدث عن قراءته وتصوره وما "يعتقده" ويستشفه من الخط الذي تسير فيه دول الاعتدال، ولم يفرض رأيه على أحد. ما قيل إن السفير العتيبة يريد أن يفرض على تلك الدول المذكورة نظاماً سياسياً علمانياً من عنده، هو أمر لا تخالجني ذرة شك في أنه لم يخطر ببال السفير على الإطلاق، فكل دولة من تلك الدول المذكورة، لها ظروفها الخاصة بها، وهي أعرف بنفسها وما تريده لمستقبلها. وضع السعودية يختلف عن وضع مصر ووضع مصر يختلف عن وضع الإمارات والبحرين والأردن. لكن الإعلام القطري والفرقة الشعبية التي تمارس "الردح البلدي" من ورائه، لا يبحثان عن الحقيقة ولا يريدانها، وإنما يبحثان عن التشغيب والضجة الإعلامية بطريقة سوقية جداً. إنهم يشبهون السفسطائيين في تاريخ الفلسفة، تلك المجموعة التي كانت ترفض وجود الحقيقة والمعرفة، وتتباهى بنصرة القول ونقيضه، ولا تفعل شيئاً أكثر من رمي حوانيت الآخرين بالحجارة كما يفعل الصبيان الصغار، هذه على ما يبدو هي قصة حياة النظام القطري برمته، وليس إعلامه فقط.

لقد كان تصرفاً حكيماً من وزارة الخارجية السعودية حين ترفعت عن الرد عن "وشاية الأغبياء" التي مارسها الإعلام القطري بهذا الخصوص. هي وشاية غبية فعلاً، لكنها تعتمد على "الشعبي" لا "النخبوي" وتركز على دغدغة العاطفة الدينية، والإيعاز إلى حلفائها من الإخونجية لكي يُثيروا الشارع ويوهموه أن كارثة توشك أن تحل بالإسلام وأهله، لعل الشارع أن يثور ويحرق الأخضر واليابس. هذه الوشايات القطرية المتكررة قد بدأت تفقد جماهيرها عندنا، لأن المواطن الخليجي عموما، بدأ يُفيق من عادته في تصديق من لا يستحق التصديق. خصوصاً بعد حملة قناة الجزيرة لتدويل الحج، والذي يقصد منه تدويل مكة والمدينة والأماكن المقدسة. مطلب تتنازع عليه تركيا وإيران منذ سنين، ورضي النظام القطري على نفسه أن يكون البوق الرخيص لمطالب تلك الدول، فخسر بذلك آخر ذرات التعاطف السعودي والخليجي، فهذه القضية محسومة ولا مجال للنقاش فيها عند كل شرائح المجتمع السعودي الذين يرون أن الله قد أكرمهم بخدمة بيته.

قراءتي الشخصية للحدث، أن خطاب معالي السفير العتيبة الموجه للإعلام الغربي، كان يتعلّق تحديداً بسوريا والعراق. دولتان عربيتان خسرتا جيشيهما وغرقتا في مستنقعات الدم ولا زالتا، بسبب الطائفية والإرهاب، مئات الألوف من البشر قتلوا بسبب حروب دينية وصراعات مذهبية، ولن تقبل طائفة بانتصار طائفة أخرى عليها، لأن كل طائفة تعلم أن المنتصر سوف يضطهد من سواه ويريه الذل والهوان. هذا السبب تحديداً هو الذي سيمنع الحرب من أن تنتهي، ستبقى مستعرة للأبد ولا يمكن لنا أن نتوقع أن تنتهي هذه الحروب من تلقاء نفسها، هكذا بدون حل. في مثل حالة سوريا والعراق، ولبنان كذلك، مع كل تلك الأجناس والإثنيات المختلفة، مع كل تلك الأديان المتباينة والمذاهب المتصارعة، تكون العلمانية هي الحل الذي يحقن الدماء، الدين لله والوطن لجميع تلك الإثنيات ولجميع تلك الأديان والمذاهب، بحيث لا يترك مجال لأحد لكي يضطهد أحداً. لقد مرت أوروبا بظروف مشابهة، بل أشد سوءا، عندما وقعت حرب الثلاثين سنة، ما بين ( 1618 – 1648 ). حرب شرسة دموية نشأت بسبب الخلافات الدينية والمذاهب المتصارعة، ومزقت البلاد شر ممزق وملأت القلوب بالأحقاد والضغائن، مما دعا الحكماء الكبار من أمثال جون لوك للكتابة عن "التسامح الديني" و"الحكومة المدنية" ثم تطورت تلك المطالبات لتكون الحكومات العلمانية. أنظمة سياسية تدير السلطة في كل البلاد الغربية اليوم، ولا نرى فيها حروباً تسيل فيها الشوارع دماً ولا أرامل ولا أيتام. نعم، لقد نجحت العلمانية في حقن دماء البشر، بحيث لم يعد من الممكن أن نتصور في أوروبا أو أمريكا حرباً كالتي رأيناها في العراق وسوريا، ولذلك سيكون من المعقول جداً أن يتطلع السفير العتيبة لأن تقوم في تلك البلاد الخارجة من الحرب، نظاماً علمانياً يحفظ دماء المسلمين من سيوف المسلمين