الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل.
الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل.
الخميس 24 أغسطس 2017 / 20:12

1963: محمد حسنين هيكل... ونبوءات إعادة الوحدة العربية لآخر مرة!

تتالت مقالات «محمد حسنين هيكل»، لتكشف - بحذر - بعض ما كان يثار من قضايا في المحادثات، وتفضح بعض ما كانت القاهرة تعتبره مناورات يقوم بها فرع حزب البعث فى سوريا، تكشف عن أنه لم يكن مخلصاً في سعيه لإعادة الوحدة

استقبل محمد حسنين هيكل عام 1963، بمقال بعنوان "التحديات التي تواجهنا من وراء الحدود سنة 1963"، نشر - فى 4 يناير (كانون الثاني) - في زاويته الثابتة، التي كانت تتصدر صفحات "الأهرام" كل يوم جمعة بعنوان "بصراحة".. ليكون فاتحة المجلد الرابع من مقالاته، الذي صدر هذا الأسبوع، عن مركز الأهرام للترجمة والنشر بالقاهرة، وعلى عكس المجلدات الثلاثة السابقة، التي ضم كل منها مقالاته في أكثر من عام، منذ بدأ يكتبها بعد توليه رئاسة تحرير "الأهرام" عام 1957، فإن المجلد الرابع يقتصر على ما نشره خلال نصف عام فقط، بين 4 يناير (كانون الثاني) و11 يوليو (تموز) 1963.

فى هذا المقال الافتتاحي لعام 1963، حصر هيكل التحديات التي تواجهها مصر، من وراء الحدود، في اثنين فقط.. يأتي أولهما من إسرائيل، التي باتت تدرك أن عام 1963 - أو العام الذي يليه - هو آخر فرصة لصدام كبير مع العرب، وتنبأ بأن أي تغيير في موازين القوى بين الطرفين، قد يدفعها إلى حرب يائسة ومجنونة تشن خلالها حرب جراثيم ضد العرب.. أما التحدي الثاني فيمتد - كما أردف هيكل يقول - في بقية الصراع، بين القوى الثورية - التي تقودها مصر - وبين القوى الرجعية العربية وحلفائها وأولهم الانتهازية.

ولم تكن مصر الناصرية، قد أفاقت بعد من آثار نكسة الانفصال التي أسفرت - في 28 سبتمبر (أيلول) 1961 - عن تفكيك الوحدة المصرية - السورية، لتشتعل بعدها حرب إعلامية شرسة بين القاهرة ودمشق، شجعت خصوم الناصريين الإقليميين والدوليين، على محاولة القضاء على ما تبقى من نفوذها الجماهيري فى العالم العربي، خاصة في ظل الانقسام الذي وقع في معسكر الثورة بسبب التنافس بين القاهرة وبغداد، وبين الزعيم جمال عبد الناصر، وزعيم الثورة العراقية - 14 يوليو (تموز) 1958 - عبد الكريم قاسم، وبين القوميين العرب والشيوعيين العرب، على زعامة ما كان يعرف آنذاك بـ"حركة القومية العربية"، وهو الانقسام الذي أسفر عن تحالف الانتهازيين الذين يحكمون عاصمة الرشيد، مع الانفصاليين الذين يحكمون عاصمة الأمويين، ليشكلوا احتياطياً للقوى الرجعية العربية.

استغل عبد الناصر المرحلة بين الانفصال، وبين بداية عام 1963، في إعادة بناء الجبهة الداخلية المصرية، على ضوء الدروس التي انتقلت إليها تجربة الوحدة المصرية - السورية، فعقد - في عام 1962 - المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي أسفر عن إعلان ميثاق العمل الوطني، وحققت القوى الثورية التي يقودها اختراقاً مهماً في الجبهة المضادة، بقيام الثورة اليمنية - في 26 سبتمبر (أيلول) 1962 - وتدخل مصر عسكرياً لحمايتها، مما أدى إلى وصول قوتها الصلبة إلى تخوم مناطق النفوذ البريطاني في اليمن الجنوبي، وما كان يعتبر آنذاك مركز قيادة المعسكر الرجعي، وعلى الرغم من سعي القوى المؤيدة لعبد الناصر في دمشق، للقيام بأكثر من محاولة فاشلة لإعادة الوحدة، إلا أن جرح الانفصال كان لا يزال يضغط على أعصاب النظام، وهو ما جعل هيكل يختم المقال الذي افتتح به العام 1963، بتأكيد أن الثورة العربية سوف تنتصر، ليس من باب التنبؤ، لكن من باب القراءة الصحيحة للتاريخ.

وجاءت المقالات الخمسة التى كتبها هيكل بعد ذلك، لتعيد التذكير بأن المعسكر الثوري العربي، يتبع سياسات تؤهله للتغلب على كل ما سوف يواجهه من تحديات، فواصل بناء السد العالي، واستعادت علاقته بالاتحاد السوفييتي، الدفء الذي فقدته فى ظل تراكم ثلوج الخلاف مع الشيوعيين العرب، وبدأ في بناء الاتحاد الاشتراكي العربي، ووصل إلى حد تنبأ معه هيكل بأن هناك ناراً تحت الرماد في المشرق العربي، وأن هذا الرماد قد تطاير أمام هبوب الرياح المعبأة بالثورة.

وبعد أسبوعين من ذلك، وفي 8 فبراير (شباط) 1963، أسقط الجيش العراقي حكم عبد الكريم قاسم في بغداد، وبعد أسبوعين شارك وفد عراقي رفيع المستوى يمثل المجلس الوطني لقيادة الثورة العراقية، في احتفالات القاهرة بالعيد الخامس للوحدة المصرية - السورية، وبعد أسبوعين آخرين - وفي 8 مارس (آذار) 1963 - تقوم ثورة أخرى في دمشق تنهي حكم الانفصال، وفي أعقاب كل منهما تنطلق المظاهرات الجماهيرية فى المدن العراقية والسورية تطالب بإقامة وحدة فورية بين البلدان الثلاثة: مصر وسوريا والعراق، وتصل إلى القاهرة، وفود تمثل بغداد ودمشق لمناقشة مشروع هذه الوحدة.

وهكذا قطع هيكل سلسلة مقالات كان قد بدأ يكتبها عن الاتحاد الاشتراكي العربي، ليبدأ الكتابة حول محادثات الوحدة الثلاثية بين الأقطار الثورية الثلاثة التي استمرت ما يقرب من شهر بين 15 مارس (آذار) و17 إبريل (نيسان) عام 1963، وخلالها تنبه الرئيس عبد الناصر، إلى أن كلاً من الثورتين العراقية والسورية، يقودها فرع من حزب البعث الاشتراكي فى العاصمتين ويخضعان لقيادة قومية واحدة، كان يرأسها آنذاك مؤسس الحزب ميشيل عفلق، وكان من رأي عبد الناصر أنه ليس بينه وبين الفرع العراقي من حزب البعث، ما يجعله يتحفظ على إقامة علاقات وحدوية معه، بعكس الفرع السورى من الحزب نفسه، الذي شارك في إقامة الوحدة بين مصر وسوريا، وشارك في حكم الجمهورية العربية المتحدة، لفترة تقترب من عام ونصف العام، ثم استقال وزراؤه من حكومة الوحدة، وشنوا ضدها حملة دعاية مكثفة، ووقع أقطابه على بيان يؤيد الانفصال، وبالتالي فلا بد من تصفية حسابات هذه الفترة قبل البدء فى محادثات حول وحدة جديدة.

وخلال هذه المرحلة تتالت مقالات محمد حسنين هيكل، لتكشف - بحذر - بعض ما كان يثار من قضايا في المحادثات، وتفضح بعض ما كانت القاهرة تعتبره مناورات يقوم بها فرع حزب البعث فى سوريا، تكشف عن أنه لم يكن مخلصاً في سعيه لإعادة الوحدة، وأنه يتظاهر بالحماس لإتمامها، لكى يشفط الضغوط التى قام بها الناصريون في دمشق لإتمام الوحدة، فى حين أن هدفه كان الانفراد بالسلطة دونهم، بل وكان يروج كذلك لشعار"وحدة دون عبد الناصر".

وما كادت المباحثات تنتهي بتوقيع ميثاق الوحدة فى 17 إبريل (نيسان) 1963، حتى كتب محمد حسنين هيكل ستة مقالات، بدأ ينشرها في 17 مايو (أيار) 1963 أسبوعياً، لكي يمهدها - ابتداء من 22 يونيو (حزيران)- لنشر النص الكامل لمحاضر مباحثات الوحدة الثلاثية.. وما كاد ينتهي من النشر فى 21 يوليو 1963(تموز)، حتى خطب عبد الناصر في الاحتفال بالعيد الحادى عشر لثورة يوليو (تموز)، ليعلن أنه لا وحدة مع حزب البعث الفاشستي، وأن مصر تسحب توقيعها على ميثاق 17 إبريل (نيسان)، ليكون هذا الإعلان آخر محاولة جدية لإعادة الروح للوحدة العربية.. وهذه هى الأهمية البالغة للمجلد الرابع من مقالات "بصراحة" التى كتبها آنذاك محمد حسنين هيكل لتكون أشبه بجنائزية لحلم الوحدة العربية!