رسم تعبيري. (أرشيف)
رسم تعبيري. (أرشيف)
الإثنين 4 سبتمبر 2017 / 20:37

تاريخ الطب النبوي

نظرة متأنية في أحاديث الطب النبوي ستجعلك تدرك أن كثيراً مما يصح منها لا يدل على المطلوب منها، أما ما لا يصح فهو الغالب في هذا العلم

قبل الشروع في نقد علمٍ ما فإنه يجب الرجوع إلى جذوره لمعرفة حقيقة وجود هذا العلم من عدمها، فالإيمان بوجود طائر العنقاء الوارد في كتب الأساطير العربية واليونانية يُحتم دراسة تاريخ الكائنات الحية وعلم الآثار لمعرفة إمكانية وجود هذا الطائر قبل الاختلاف في عدد أصابع رجله ولون ريشه وحجم جمجمة رأسه، كذلك ما يُسمى بالطب النبوي، ترى الكثيرين وقد قتلهم الحماس له رغم أنهم لم يتعاطوا أياً من أدويته ولم يتعالجوا لا هم ولا ذويهم إلا في المستشفيات ذات العلامات التجارية الأجنبية، وما تحمسهم لهذا الطب إلا بسبب كونهم سمعوا – بمحض الصدفة - أن هذا الطب قد أمر به النبي عليه السلام. السؤال الجوهري الذي يجب أن يُطرح على طاولة النقاش هو هل هذا الطب هو طب العرب في أيام النبي ص أم هو طب النبي ص في أيام العرب؟

الطب النبوي كما يعرفه أنصاره بأنه هو مجموع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما له علاقة بالطب، سواء أكان آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، ويتضمن وصفات داوى بها النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ممن سأله الشفاء، أو أنه دعا إلى التداوي بها، كما أنه يتضمن توصيات تتعلق بصحة الإنسان في أحوال حياته من مأكل ومشرب ومسكن، ويتضمن تشريعات تتصل بأمور التداوي وأدب الطب في ممارسة المهنة وضمان من يمارس الطب.

يبدو أنه من الصعب تحديد تاريخ معين لانطلاق الطب النبوي في ثوبه الذي نعرفه به اليوم، فالمرحلة الأولية منه كانت عبارة عن نصوص قرآنية عامة تتحدث عن إرشادات صحية عامة، ونادراً ما دخلت في تفاصيل علاجية كما فعلت نصوص السنة المروية في الموطأ والبخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي، ثم ظهرت كتب تحمل عنوان (الطب النبوي) لعلماء وفقهاء مثل عبدالملك الأندلسي (ت 238هجري) وأبي بكر السني (ت 280 هجري) وأبي نعيم الأصفهاني (ت 430 هجري) وابن أبي العاصم (ت 287 هجري) الذي صنف كتاباً سماه "الطب والأمراض"، ويرى البعض أن أول مصنف مستقل في مجال الطب النبوي هو رسالة موجزة للإمام علي الرضا (ت 203 هجري) من أئمة الشيعة الإثنا عشرية، ويعتبر الموفق البغدادي المتوفى عام 629 هجري أول طبيب يقوم بشرح أحاديث الطب النبوي في كتاب منسوب إليه، في القرن السابع جمع الضياء المقدسي (ت 643هجري) أحاديث الطب النبوي - بطلب من بعض تلاميذه - في كتابه "كتاب الأمراض والكفارات والطب والرقيات"، وفي القرن الثامن الهجري أُعيد إحياء الطب النبوي على يد أبي الحسن الحموي (ت 759 هجري) الذي ألف كتاب "الأحكام النبوية في الصناعات الطبية".

ثم وضع الذهبي (ت 748 هجري) كتاب "الطب النبوي" والذي شكك في نسبته إليه بعض الباحثين لأنه قد لوحظ أن كتابه وكتاب الموفق البغدادي نسختان لكتاب واحد، حيث يقول الدكتور عبدالحكيم الأنيس أن كتاب البغدادي والذهبي في الطب النبوي ليس لهما، بل هما ل"داود الدمشقي" النصراني الذي أسلم على يد ابن تيمية، لا سيما وأن البغدادي في كتابه ينقل عن أناس ولدوا بعد وفاته، وأسلوب كتاب الذهبي هذا أسلوب طبيب لا أسلوب محدث ينتقي الأحاديث التي يضعها في كتابه، ثم جاء ابن القيم الجوزية (ت 751 هجري) والذي وضع كتابه "زاد المعاد في هدي خير العباد" ليورد فصولاً كثيرة عن الطب النبوي بعدما استخدم كتب السنة وانتفع بكتب من سبقه كالحموي وغيره، وفي أوائل القرن العاشر كتب جلال الدين السيوطي (ت 911 هجري) كتابه "المنهج السوي والمنهل الروي في الطب النبوي" فكان من أجمع كتب الطب النبوي، لأنه حوى معظم ما كتبه السابقون مضافاً عليه قدرة السيوطي الخيالية في استحضار النصوص والأحاديث من مصادرها متفوقاً على كل من سبقه، وألف كثيرون بعده وقبله في الطب النبوي منهم ابن طولون الحنفي (ت 953 هجري).

ليس مقصود هذا المقال استقصاء كل الكتب التي ألفت في هذا المجال، والتي بلغت أكثر من 30 كتاباً مخصصاً للكلام عن الطب النبوي، لكن المقصود الإشارة إلى كثرة المؤلفات التي وضعت في القرون التي تلت عصر الرسالة. إن وجود هذا الكم الهائل من التراث في موضوع الطب النبوي دعا أحد أنصار إلهية الطب النبوي - وهو الدكتور حسن الفكي في كتابه "أحكام الأدوية في الشريعة الإسلامية" - إلى الاعتراف بأن (الطب النبوي في حاجة إلى دراسة عميقة، تجلي قدره العظيم، وتجمع بين ما ظهر من تعارض بينه وبين الحقائق الطبية الحديثة والتي بلا شك إما أن تتفق معه وإما أن تكون باطلة، فهو بحاجة إلى باحث متضلع).

صدق الدكتور الفكي، فالمنقول إلينا بحاجة إلى دراسات عميقة وليس دراسة واحدة حتى نتوصل إلى الفائدة المرجوة من هذا التراث الذي لا يُعرف حقيقته من كذبه، فنظرة متأنية في أحاديث الطب النبوي ستجعلك تدرك أن كثيراً مما يصح منها لا يدل على المطلوب منها، أما ما لا يصح فهو الغالب في هذا العلم، فخذ مثلاً كتاب (الطب النبوي) لأبي نعيم الأصفهاني الذي يعد نسخة حديثية معدلة من كتاب ابن السني، فيه 770 حديثاً لم يصح منها سوى 350 حديثاً أي قريب من نصف أحاديث الكتاب، ومع ذلك فإنها تقدم للقارئ على أساس أنها من الدين الذي يُتعبد به والدواء الذي يُتبرك به، وكلما أعجب أحد الكذابين حديثاً وضعه على لسان رسول الله، ثم أشاعه بين الناس كحديث (صوموا تصحوا) و (النظافة من الإيمان) وأحاديث مدح البطيخ و (المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء) والذي هو قول مشهور للحارث بن كلدة أحد أطباء العرب المشهورين، وللاستزادة بالإمكان مراجعة كتاب (المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة) للسخاوي فقد جمع جملة من أضراب هذه الأحاديث.

لقد تسلل الكلام عن الطب النبوي إلى معاشر الفقهاء فأتى بعضهم بالغرائب، فنجد عالماً مثل الدميري - صاحب كتاب حياة الحيوان الكبرى - في كتابه الفقهي "النجم الوهاج في شرح المنهاج"، يذكر فائدة في "الياقوت" فيقول إن من تختّم به أمن الطاعون - والذي نعرف اليوم أن سببه التهاب بكتيري وليس قوى شيطانية - وتيسرت له أمور المعاش، وقوي قلبه، وتهابه الناس، ويسهل عليه قضاء الحوائج، ويستأنس لذلك بحديث موضوع (من اتخذ خاتماً فصه ياقوت نفي عنه الفقر)، أما "الفيروزج" فإنه لم ير خاتمه في يد قتيل قط، أي أنه يعمل عمل الدروع الواقية من الرصاص، وأما "المرجان" فإنه إذا علق على طفل امتنعت عنه أعين السوء من الجن والإنس، وأما "البلور" فإن من علقه لن يرى منام سوء قط، ولو صح ذلك لكان من المفترض أن يكون أكبر محاربي البلور اليوم هم مفسرو الأحلام الذين اعتلوا منابر الخطابة.

لعل كتاب ابن القيم (الطب النبوي) هو أفضل من جمع شتات هذا العلم في كتاب واحد لم يسبق إليه من ناحية الجودة والترتيب والسرد والتدليل، فنقد هذا الكتاب هو نقد لكتب الطب النبوي الأخرى، لكن قبل الشروع في نقد كتاب ابن القيم، سنتطرق في المقال القادم إلى علم أصول الفقه الذي هو كفيل بدحض فكرة إلهية الطب النبوي من الأساس.
يتبع 2