الممثل الإنغليزي جيرمي آيرونز في دور كافكا. (أرشيف)
الممثل الإنغليزي جيرمي آيرونز في دور كافكا. (أرشيف)
الأربعاء 27 سبتمبر 2017 / 19:43

فيلم كافكا

كل كتابات كافكا، مادة لدراما الفيلم بشكل ما، وقد يعني هذا أيضاً، الإعجاب الجارف بتراث كافكا كله، لكن هذا الإعجاب ليس بالضروري في صالح الفيلم، لأن الإحالة الدائمة لتراث كافكا، تعطي الانطباع بأن سيناريو الفيلم كان مشتتاً في الاختيار

اللقطات الأولى في فيلم "كافكا" 1991، للمخرج الأمريكي ستيفن سودربيرغ، تبدأ بجريمة قتل. تأكيد سريع، ومباشر من سودربيرغ، أن جماليات السينما الأمريكية، لن تحتمل كثيراً مُراوغات فرانز كافكا، التي تُظهر تحقيقات الجريمة، وتؤجل فعل الجريمة المباشر إلى ما لا نهاية، حتى لو فَقَدَ سودربيرغ منذ البداية، الكثير من عمق المراوغات الميتافيزيقية الكافكاوية. يلعب الممثل الإنغليزي جيرمي آيرونز دور كافكا، وهو يملك نظرةً لافتة، مؤثرة، ثقيلة، مثل التي يملكها فرانز كافكا في صوره الفوتوغرافية. يعمل كافكا في شركة تأمين بيروقراطية منضبطة إلى حد العبث. يسأله رئيسه في العمل عن تقرير حكومي. يرد كافكا بأنه انتهى من كتابة التقرير، وسلَّمه للجهة المختصة. الرئيس يعتبر أن كافكا تجاوز القواعد البيروقراطية، وذلك بعدم مرور التقرير عليه هو أولاً، ثم يردد على مسامع كافكا تلك القاعدة الشهيرة التي نجد أصولها في رواية "القلعة" لكافكا: أحياناً، وهو أمر نادر الحدوث، يضيع تقرير إلى الأبد، لمجرد عدم الالتزام بترتيب صعوده للجهة المختصة. تسليم التقرير لي أولاً، هو بمثابة ختم حكومي، ختم بقاء وحفظ للتقرير أولاً، وبقاء لك في العمل ثانياً.

لا يهتم كافكا بعمله في شركة التأمين، لكنه يهتم بكتاباته التي يراها والده تافهة. يبحث كافكا عن صديقه إدوارد رابان الذي قُتِل في اللقطات الأولى من الفيلم. أثناء البحث يتهرب كافكا من أصدقاء له، بحجة أنه مشغول بالكتابة عن رجلٍ يستيقظ من نومه، فيجد نفسه فجأةً وقد تحوَّل إلى حشرة كبيرة.

 إشارات المخرج سودربيرغ إلى "المسخ"، وإلى "في مستعمرة العقاب"، والخطابات التي يكتبها لوالده، القريبة من "رسالة إلى الوالد"، وجميعها من أعمال كافكا، إشارات عابرة، تعني بأن كل كتابات كافكا، مادة لدراما الفيلم بشكل ما، وقد يعني هذا أيضاً، الإعجاب الجارف بتراث كافكا كله، لكن هذا الإعجاب ليس بالضروري في صالح الفيلم، لأن الإحالة الدائمة لتراث كافكا، تعطي الانطباع بأن سيناريو الفيلم كان مشتتاً في الاختيار، وبأن قيمة كتابات كافكا، السابقة على قيمة الفيلم، قد تُكسب الفيلم قيمةً إضافية، دون مجهود، لمجرد حضورها العابر في جُمْلة حوار. كان يكفي سودربيرغ رواية "القلعة"، لأنها الأكثر اشتباكاً مع أحداث الفيلم.
  
يتعرَّف كافكا على جثة صديقه إدوارد رابان. يدفع المحقق غروباخ في تحليله إلى انتحار إدوارد رابان بينما كافكا يميل إلى حادثة قتل صديقه. في العمل، ولأسباب غير واضحة، يقوم الرئيس الأعلى لشركة التأمين، بترقية كافكا، وتعيين مساعدين له. يحوم الرئيس الأعلى حول وقت فراغ كافكا. وينصحه بممارسة الرياضة البدنية، لأنها تضفي على الإنسان شيئاً من الحيوية. يسأل الرئيس الأعلى كافكا قبل خروجه من مكتبه، بعطف أبوي، وكأنَّ السؤال عرضي، ولا يستحق إجابة مطولة من كافكا، إن كان يعتبر نفسه كاتباً. يرد كافكا: كاتب من النوع الصغير. دائماً كافكا لا يُخيِّب آمال مَنْ حوله في تقدير نفسه. المساعدان المضحكان ينتظران كافكا في مكتبه. لودفيغ وأوسكار، وهما في رواية "القلعة"، أرتو ويريمياس. المساعدان يقولان بأنهما توأم إلا أن ملامحهما لا تقول ذلك. ينطقان بتزامن عبثي، رداً على سؤال بسيط من كافكا، بنعم ولا، ثم يتبادلان النفي والإثبات أو يؤكدان معاً النفي أو الإثبات.

غابريلا روسمان زميلة كافكا في العمل، تُعلمه بأن إدوارد رابان، كان عضواً في مجموعتها الثورية، وهم يقومون بتفجيرات ضد القلعة أو ضد السلطة الحاكمة، وما ينقصهم، هو كتابة منشورات بجودة عالية. يرفض كافكا تكريس كتابته لهدف سياسي، فهو يكتب لنفسه. طبيعة الفيلم الأمريكي لا تصمد طويلاً أمام الغموض. لا بد للمخرج سودربيرغ من هدف واضح مثير، يبتلع الغموض، أو يعتذر عنه، ولا بد أيضاً للبطل كافكا من مواجهة القلعة، فهو بطل أمريكي، وفي سينما أمريكية. حفَّار القبور أو نحَّات شواهد القبور، المعجب بكتابات كافكا، يدله على قبر فارغ، وهو طريق سري للقلعة. وصية كافكا إلى حفَّار القبور، أن يتخلَّص من أعماله التي لم تُنْجَز بعد. هكذا يتحوَّل حفَّار القبور فجأةً إلى ماكس برود، صديق كافكا في الواقع، والذي قام بنشر أعماله، ولم يحرقها كما طلب كافكا منه. مشكلة الثلث الأخير في معظم الأفلام الأمريكية، هي تسارع المعلومات الدرامية المباشرة، من أجل الوصول للنهاية. تقفيل الفيلم. يلهث ستيفن سودربيرغ بإيقاعه، للوصول إلى القلعة، التي نرى فيها ما هو متوقع في تخييل السينما الأمريكية. محاولات التحكم في الإنسان عبر آلة عملاقة، تسلط شعاعاً على أعلى رأسه. خيال روايات باتمان المصوَّرة، المتحكمة في العقول الأمريكية منذ نهاية الثلاثينيات. الممثل جيم كاري في فيلم "باتمان للأبد" 1995، وهو يسلط شعاعاً على رأسه، ليمتص نكتار عقول الآخرين أو خبراتهم. يُفسد كافكا، بطل الفعل كما يريده المخرج سودربيرغ، في نهاية الفيلم، آلة القلعة الشريرة، ثم يكتب خطاباً لوالده، وهو يبثق الدم في منديله، إشارة إلى موته بالسل الرئوي، وهي أيضاً إشارة مفاجئة، ضعيفة، وميلودرامية في زمن الفيلم، لكنها بمنظور التاريخ الواقعي، تراجيدية، ومصيرية.