إرنستو تشي غيفارا.(أرشيف)
إرنستو تشي غيفارا.(أرشيف)
الأربعاء 11 أكتوبر 2017 / 19:39

وجوه غيفارا الكثيرة

غيفارا ليس فقط حليف كاسترو وصديقه ووزيره، بل هو أيضاً مَن ربطه بكاسترو خلاف حادّ كان مصدره المرجّح صلة الأخير بموسكو

في الذكرى الخمسين لمقتل إرنستو تشي غيفارا، الأرجنتينيّ الأصل، في غابات بوليفيا، استرجع كثيرون صوراً من الماضي الذي لا يمضي: غيفارا المناضل الأمميّ المتفاني. غيفارا الطبيب الذي فضّل علاج الفقراء والمحرومين بالثورة على العلاج بالطبّ. غيفارا الذي هدّد بخلق "أكثر من فيتنام" في مواجهة "اليانكي الأمريكيّ". غيفارا الوزير الذي تخلّى عن الوزارة (في كوبا) وامتيازاتها لكي يعيش ويقاتل في الأدغال على رأس شلّة من مريديه المتحمّسين...
ولم يخلُ الأمر بالطبع من تذكيرنا بأغنية الشيخ إمام الشهيرة "غيفارا مات... آخر خبر في الراديوهات" التي كتب أحمد فؤاد نجم كلماتها، وذاعت وذاع صيتها لسنوات طويلة في العالم العربيّ.

لكنّ هذه مجرّد صورة واحدة من صور غيفارا الكثيرة والمتضاربة، بل المتناقضة أحياناً:
فغيفارا أيضاً كان شخصاً دمويّاً وبطّاشاً، بحيث أنّ فيديل كاسترو نفسه، إبّان حرب العصابات ضدّ باتيستا في كوبا، كان يجده متطرّفاً ومبالغاً في تصفية السجناء السياسيّين الذين يقعون بين يديه. لقد كان يفعل هذا مرّة واحدة وحاسمة ومن دون محاكمة.

وغيفارا هو أيضاً ذاك الكائن العُصابيّ الذي لا يستطيع العيش في مجتمع مستقرّ، وربّما كانت إصابته الحادّة بمرض الربو قد أسهمت في تنامي مشاعره بالضيق والنفور، وبالسعي وراء حركة لا تهدأ.

وغيفارا ليس فقط حليف كاسترو وصديقه ووزيره، بل هو أيضاً مَن ربطه بكاسترو خلاف حادّ كان مصدره المرجّح صلة الأخير بموسكو. في هذا الإطار قيل إنّ انتقاله إلى بوليفيا كان جزئيّاً إبعاداً مارسه زعيم كوبا، كمل قيل إنّ الكوبيّين، ومن ورائهم الاتّحاد السوفييتيّ، لم يكونوا بعيدين عن مقتله. لقد أرادوا أن يضبطوا الصراع مع الولايات المتّحدة بعد خليج الخنازير وأزمة الصواريخ في مطالع الستينات. أمّا هو فأراد إبقاء ذاك الصراع مفتوحاً وبلا ضوابط.
وغيفارا قائد عسكريّ فاشل في النهاية، كما أنّ مشروعه الثوريّ في أميركا اللاتينيّة انتهى على نحو كارثيّ مع الهزائم المتلاحقة التي حلّت بجميع "البؤر" الثوريّة هناك.

وغيفارا كان لفئات من "اليسار المسيحيّ" في أمريكا اللاتينيّة تذكيراً إنسانيّاً بالمسيح، لجهة التضحية في سبيل الضعفاء من البشر ودفع هذه التضحية إلى حدّ الموت.

وغيفارا كان صاحب وجه جميل، وهو ما ساهم في تشبيهه بالمسيح في أجواء "اليسار المسيحيّ"، تماماً كما كان السبب في تعلّق شبّان ويافعين غير مسيّسين بصورته وإيحاءاتها الجنسيّة.

وأخيراً، وللأسباب تلك جميعاً، فإنّ غيفارا غدا الأيقونة الاستهلاكيّة التي تجدها مطبوعة أو منقوشة على القمصان والملابس، وفي الملاعب الرياضيّة، وفي المقاهي بل حتّى في البارات ونوادي الرقص واللهو. لقد أعادت الرأسماليّة تدويره على شكل سلعة للبيع والشراء، وهذا ربّما كان أكثر صوره بقاءً في آخر المطاف.

والحال أنّ عالمنا الراهن صار يعصى على التعريف الواحد الآحاديّ، وهذا بالضبط ما تدلّنا إليه التجربة مع غيفارا وصوره، وما تنمّ عنه آلة ربح جبّارة ونهمة تقضم كلّ شيء تقريباً. وهذه الأخيرة تسيء، من دون شكّ، إلى ذاكرتنا، وقد تمعن في تشويهها. بيد أنّها، من جهة أخرى، تُقنعنا بأنّ قراءة الحاضر، ناهيك عن المستقبل، يصعب أن تقوم على الذاكرة وحدها. وهو عيب ضارب في ثقافتنا العربيّة السائدة، عيبٌ جدّدت ذكرى غيفارا والتعامل معها تذكيرنا به.