صورة رمزية.(أرشيف)
صورة رمزية.(أرشيف)
الأربعاء 8 نوفمبر 2017 / 19:50

... عن دفع الضرائب والمتهرّبين منه

هذه الثروات المهرَّبَة من الضرائب كفيلة بتذليل أزمات كثيرة وفقر كثير في هذا العالم، وتحديداً في البلدان التي تهرب منها تلك الرساميل الضخمة

جاء تسريب "أوراق باراديس" أو "أوراق الفردوس" (13،4 مليون وثيقة)، التي حصل عليها "الاتّحاد الدوليّ للصحافيّين الاستقصائيّين"، ليتّخذ شكل انفجار مُدوٍّ. الملاذ الضريبيّ لأغنى أغنياء العالم، أي لـ 0،01 في المئة منهم، متخم ببلايين الدولارات. فوق هذا، فبعض القيّمين على ثروات الشعوب مشاركون أساسيّون في العبث بها: ملكة بريطانيا إليزابيث تستثمر ما يُقدّر بـ 10 ملايين جنيه استرلينيّ (13 مليون دولار) في "الأوف شور" (بالمناسبة، هل من معادل عربيّ للكلمة؟). وزير التجارة الأمريكيّ ويلبر روسّ ناشط في "الأوف شور" بشراكة مع مصالح روسيّة قريبة من فلاديمير بوتين وخاضعة للمقاطعة الأمريكيّة! كذلك أمر ستيفن برونفمان، أحد أبرز مستشاري رئيس الحكومة الطنديّة جوستين ترودو.

لن نكرّر هنا جميع العناوين الصارخة والمثيرة التي ضجّت بها وسائل الإعلام العالميّة جميعاً. مع هذا، نتوقّف عند عدد قليل من الحقائق التي نظنّ أنّها مهمّة وأساسيّة من زاوية كشفها عن أحوال عالمنا.

فقد جاء انفجار هذه الفضيحة مترافقاً مع تعاظم اليأس الأخلاقيّ من السياسيّين الذين تغلّبت لدى كثيرين منهم قيمة جمع الثروات، بل تقديس الثراء، على أيّة قيمة أخرى. ولئن كان رئيس الحكومة الإيطاليّ السابق سيلفيو برلوسكوني أحد أبرز المؤسّسين للمنحى هذا، فإنّ البرلوسكونيّة ما لبثت أن شهدت تفشّياً واسعاً في العقدين الأخيرين.

على أنّ هذا اليأس المتعاظم من السياسيّين رتّب، ولا يزال يرتّب، نتائج كثيرة في عدادها الإسهام في صعود الزعامات الشعبويّة في بلدان ذات أنظمة ديمقراطيّة عريقة، ومن ثمّ تهديد الديمقراطيّة نفسها.

كذلك يأتي انفجار الفضيحة في ظلّ أوضاع اقتصاديّة سيّئة، لا في البلدان الفقيرة فحسب، بل أيضاً في البلدان الغنيّة التي لم تتعافَ حتّى اليوم من أزمة 2008 الماليّة، على ما تدلّ أحوال أوروبا، وبالأخصّ بلدانها الجنوبيّة (اليونان، إيطاليا).

وغنيّ عن القول إنّ هذه الثروات المهرَّبَة من الضرائب كفيلة بتذليل أزمات كثيرة وفقر كثير في هذا العالم، وتحديداً في البلدان التي تهرب منها تلك الرساميل الضخمة. وهذا ما يستدعي، بين علاجات أخرى، تطوير أدوات الرقابة، القانونيّ منها والأمنيّ، ضدّاً على الدعوات الرائجة منذ الثمانينات إلى إضعاف الدولة وأدواتها الرقابيّة.

والأمل أن يساهم انفجار فضيحة "أوراق الفردوس" في تحريك الميل إلى المراجعة والإصلاح، الذي يتعاظم المطالبون به، على ما دلّت، مثلاً لا حصراً، حملة بيرني ساندرز الانتخابيّة في الولايات المتّحدة. وهذا ما يقتضي التراجع عن النهج المعمول به راهناً. إنّ السجال الذي بدأ في بريطانيا حول اعتذار الملكة إليزابيث (والذي أطلقه القائد العمّاليّ جيريمي كوربن) قد يكون بداية طيّبة على هذا الصعيد.

وكائناً ما كان الأمر، يبقى من الحيويّ إعادة الاعتبار لتلك الفكرة التي تقول إنّ دفع الضرائب عمل متمدّن، فضلاً عن عائديّته الاقتصاديّة النافعة. فالضرائب ليست أموالاً "تسرقها" الدولة من المواطن. إنّها الخدمات التي تقدّمها الدولة الديمقراطيّة وغير الفاسدة للمواطن. ومن خلالها يصار إلى تعزيز الرابطة التي تجمع مواطناً بآخر، بل يصار إلى منح العلاقة الوطنيّة مضموناً فعليّاً. أمّا العكس، أي اعتبار أنّ الشكل الوحيد للمال هو ما تحتويه الجيوب أو الحسابات المصرفيّة، ففضلاً عن أضراره الاقتصاديّة، بدائيّ إن لم يكن وثنيّاً في نظرته إلى المال. وهو، بالطبع، مضادّ لكلّ بناء اجتماعيّ قابل للديمومة والحياة.

أغلب الظنّ، إذاً، أنّ المراجعات، وإن تأخّرت، آتية. ذاك أنّ القدرة على تحمّل الوضع القائم باتت في حدّ منخفض، و"أوراق الفردوس"، على الأرجح، حافز للتسريع.