السبت 2 ديسمبر 2017 / 20:04

الحنين إلى الأماكن

د. عمار علي حسن

زرت مدناً كثيرة في الشرق والغرب، لكن أجد نفسي في جوع دائم للقاهرةـ، لاسيما أماكنها العتيقة.
يستبد بي شوق عجيب إليها، إن تأخرت غربتي عنها إلى اليوم السابع، حتى إنني اشتقت إليها وأنا أدور في شوارع الساحرة باريس، عاصمة الدنيا كما قال عنها الشيخ مصطفى عبد الرازق، الذي قال أيضاً: "لو أن للآخرة عاصمة لكانت باريس". فارتباطي بالأماكن عجيب، وأشعر أنها جزء أصيل من نفسي، أليست الحياة مكاناً وزماناً وتجربة مفعمة بالتفاصيل التي لا تتوقف إلا بالموت؟

في كل فندق حللت فيه وجدت الأشواك تنتظرني ومعها الأرق، فهذا الأسِرة لا تخفي نظافتها عني أنها كانت لغيري بالأمس، فأتقلب فيها متحايلاً على نوم عزيز لا يتهادى حتى ينضح النور من خلف الستائر السميكة، ليخرج لسانه، ويقول لي هامساً: ارحل يا غريب.

في القاهرة يتملكني حنين إلى الأماكن التي عشت فيها وقت صباي، حتى أنني أزورها وحيداً أحياناً، أتجول في الشوراع الخلفية المتربة، وأطالع الشرفات، وواجهات المحال التي تتبدل بلا هوادة، فأجد كثيراً من تلك التي كنت أعرفها قد غاب، وحلت مكانها أخرى، فهذا كان مطعماً تناولت فيه وجبات بسيطة شهية، وصار محلاً لبيع الهواتف المحمولة، وهذا مقهى صار "سايبر" تتراص فيه أجهزة الحاسوب لتأكل عيون صبية يحملقون في الشاشات التي تتبدل ألوانها في سرعة خاطفة، وهذا بيت قطنت فيه قد انهدم وأقيم مكانه أخرى شائه غريب عني، وهذه وجوه لا تزال تومض في الذاكرة أجدها في الشوارع وعلى المقاهي، لكن بعد أن امتدت إليها يد الزمن التي لا تبقى أحدا على حاله.

أماكن كثيرة في القاهرة قطنت فيها أيام العزوبية، لم أستقر في أي منها سوى بضعة شهور. شقق مفروشة بأثاث بسيط، وحكايات وضحكات لرفاق الصبا، الذين كنت أتقاسم معهم الحلم والرغيف. وحين أجلس الآن لأحصيها أجدها قد وصلت إلى ثلاثة عشر مكاناً، امتدت من حي "عين شمس" في شمال شرق القاهرة، إلى حي "المنيب" في جنوبها الغربي، وبين هاتين النقطتين كان أصحاب البيوت يضيقون بي ورفاقي، لأننا كنا مستأجرين فوضويين متعبين للمُلَّاك، فإن كنا لا نتأخر في دفع الإيجار، فإن غرفتنا أو شقتنا تتحول في الليل إلى بنسيون، حين يهل رفاق بلا مأوى، لا يمكننا ردهم مهما كانت العواقب.

كان السرير المتداعي يستعد كل ليلة لاستقبال أربعة شباب، ينامون "خلف خلاف" متجاورين، قدمين عند رأس، ورأس عند قدمين، والليل حليم ستار. وهناك من يفترشون الأرض فوق كليمات قديمة أو بطاطين متآكلة الحواف، منقوبة ومثقوبة وممزقة صفحاتها الملونة. وحين كان صاحب البيت يضبط ما يجري، يطلب منا الرحيل. وكان الرحيل شاقاً، يبدأ بالبحث عن مكان آخر، وينتهي بالوصول إليه في إجهاد شديد، وبين المحطتين تضني ظهورنا كراتين كتبي، التي عذبتها معي من كثرة الترحال.

هذه الأماكن التي أكلت سنوات الصبا في المدينة لا تنسيني ما تركته وراء ظهري هناك في البعيد، إذ لا يكف جوع نفسي إلى الريف، مانح البهجة والذكريات الحلوة، فأذهب إليه في الصعيد والدلتا، دافناً بصري في عمق الخضرة الممتدة والشمس الكسيرة الحزينة التي تهرول نحو الليل الذي ينتظرها هناك خلف القرى. وحين لا أجد لدي وقتاً، في زحمة المدينة، لزيارة الريف، أجرى إلى أية رواية أو قصص قصيرة تدور حول حياة الناس هناك، فأسافر مع السطور إلى أفراحهم وأتراحهم، وأجد نفسي بينهم، غارقاً في رحاب الأيام التي ولت. وأحيانا أمسك قلمي لأكتب قصصاً أو رواية عن الريف، الراقد في رأسي، فأستدعي أيامه البعيدة، وناسه الذين رحلوا أو تساقطت أسنانهم، وابيضت شعورهم، وانحنت ظهورهم، وضعفت أبصارهم، وهم يمشون على مهل عند الشاطئ الأخير لحياة مترعة بالشقاء.

وأتذكر حين سافرت للعمل في أبوظبي أن الحنين كان يجرفني إلى مقاهي "وسط البلد" والمكتبات وجلسة الأصحاب القلائل في ندوة ثقافية يرتادها الحالمون، وعربات الفول، التي لا يكف طعمه عن مطاردتي. وفي الليل أحلم دوماً بأني طائر غريب، يحلق فوق شواشي النخيل. كان حلماً جميلاً متكرراً في الغربة، يغادرني حين عودتي، ثم يعود إن طال السفر.

في السفر، ومهما كان جمال المدن التي أحل بها، أشعر أنني سمكة أخرجوها من الماء ورموها على شاطيء رملي ألهبه القيظ، أو أنني طائر كان يحلق في الأقاصي ووضعوه في قفص داخل غرفة باردة معتمة عطنة، فأجد نفسي أتقلب في حيرة، طالباً الماء كالسمكة، والفضاء كالطائر، ولا أجد هذا إلا في رحاب القاهرة، فهي، بكل زحامها ومتاعبها للجسد، فإنها رؤوفة رفيقة بالروح، وهذا هو الأهم.