رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري (أرشيف)
رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري (أرشيف)
الأربعاء 6 ديسمبر 2017 / 20:59

النأي بالنّفس

إيران ومن ورائها "حزب الله" هما اللذان يعانيان من تضييق وتهديد دوليّين، وهما لذلك أحوج بكثير إلى التواجد في الحكومة وإلى الإنتخابات والتمثيل الشرعي. فهذه حجّة لاغبار عليها، وهذا وضع يُعتدّ به دوليّاً، وحاجة حزب الله الى ذلك أكبر من حاجة غيره

ما جرى أخيراً في لبنان لا يستهان به. لقد أمكن في نوع من الميلودراما التي دارت في الصمت، ومن دون أن ينتتظر أحد أو يتوقّع، نقل النقاش والمسألة معه إلى مستوى أعلى. بل هي المرّة الأولى تقريباً التي يطرح فيها النقاش على مستواه الحقيقي. إذا راجعنا وثائق السنة الفائتة، من البيان الوزاريّ إلى الخطاب الرئاسيّ إلى الجدل البرلمانيّ إلى التصريحات المتعدّدة والمتفاوتة، بدا أنّها جميعها تلعب على عبارة واحدة قصد التمويه أوالكشف، لكنّ ذلك لا يجعلها أوضح، بل هي كما جاء في عبارة النفّري المتصوّف، كلّما أوضحوها إزدادت غموضاً. تلك العبارة هي "النأي بالنّفس" الّتي مضى على تأليفها سنوات من دون أن نجد لها قانوناً أو تعريفاً، والأرجح أنّ تغييب معناها كان لموقعها في العقيدة والممارسة السياسيّتين، فكان التهرّب على هذا النحو جزءاً من ممارسة سياسيّة قائمة. إذ تكاد العبارة تلخّص المراوحة السياسيّة الراهنة والتوازن السياسيّ الذي من وقت طويل يلعب لمصلحة طرف من الإثنين المتخاصمين، إذ تمويهه لا يضيع الحدود الّتي يفترض أنّه يتضمنها، ولا يقيّد الطرف الّذي يفترض أنّه يقيّده.

ما جرى أخيراً في لبنان أيقظ الجميع على هذه العبارة، وجعلها تدور بمعناها الحقيقي الّذي لا معنى لها سواه، النأي بالنفس عبارة محايدة خفيضة المعنى في مجال يغلب عليه الكلام الرنّان الّذي وحده يستحقّ أن يستعاد كأنّه منقوش. وهذا مع التكرار ومرور الزمن يفقد معناه، إذ يستحيل بلا معنى على الإطلاق. النأي بالنفس يعني فوراً البعد، والبعد هنا عن الإنقسامات والخلافات العربيّة في أضعف الإيمان، فكيف يستوي النأي بالنفس مع جرّ لبنان إلى واحد من المعسكرات العربيّة أوالعالميّة المتصارعة، وكيف يكون النأي باالنفس مع إرسال آلاف الجنود ليحاربوا في الجبهة السوريّة، مايعني جرّ الأذى والقتل على جزء من الشعب السوريّ. كيف يمكن أن يستوي النأي بالنفس مع حكومة نصفها يتعاون جهاراً مع معسكر ولا يكتفي بتأييده، فيما النصف الآخر يؤيّد المعسكر الثاني ولو بدون أن يحارب معه.

ظلّت مسألة النأي بالنفس لعبة طرف من الإثنين، يخرج عنها علانية ويتواطأ معه الطرف الثاني في أن يتعامى عن خروقات الطرف الأوّل ولا يشترط التراجع عنها. في هذا التعامي حرص على المشاركة الحكوميّة التي تقوم بالطرفين، لكنّ فيها أيضا حرصاً على عدم استنفزاز القوّة المسلّحة للطرف الأوّل ولقطبه "حزب الله" وهي قوّة بآلاف الجنود والصواريخ. وبالطبع هذه قوة لايمكن أن لا يحسب لها حساب، خاصّة أنّ لا سبيل إلى التعادل في ميزان القوى، فالفرق في هذا المجال بين القوّتين شاسع.

الآن، ولم تعد الأمور ذاتها. لقد عُدّ لبنان بحكومته كلّها، بجماعاته كلّها، مسؤولاً عن هذا التدخّل المسلّح، ولم تعد الجماعات اللبنانيّة ولا حلفاؤها العرب الّذين هم في أصل تكوينها، مضطّرين إلى مسايرة الطرف الأوّل في خروقاته وقفزه فوق موضوع النأي بالنفس، فهم مسؤولون أمام جماعاتهم، وبصورة خاصّة أمام حلفائهم. الشراكة الحكوميّة الّتي كان هؤلاء يخشون عليها من الإنفراط ويتعامون عن الخرق الواضح في سبيلها، هذه لا تخصّهم وحدهم ولا تخصّ جماعاتهم وحدها، والأمر نفسه يجري على الحلفاء. حاجة الطرف الثاني إلى الشراكة الحكوميّة، بل إلى الحكومة، بل إلى الشرعيّة التّي تنبع منها، ليست أقلّ من حاجة الطرف الثاني، لاتقلّ بل تزيد عنها. فإيران ومن ورائها "حزب الله" هما اللذان يعانيان من تضييق وتهديد دوليّين، وهما لذلك أحوج بكثير إلى التواجد في الحكومة وإلى الإنتخابات والتمثيل الشرعي. فهذه حجّة لاغبار عليها، وهذا وضع يُعتدّ به دوليّاً، وحاجة حزب الله الى ذلك أكبر من حاجة غيره.

 لم يكن الطرف الأوّل بقطبه الأوّل سعد الحريري، بحاجة إلى تمايز ذلك وفهم أنّ ما تستفيد منه قوى الخصم من وجود الدولة ووجودها في الدولة، أساسيّ بالنسبة لها يحيث لا تستطيع أن تتمادى في المساومة عليه، وأن تعتمد على الآخرين دائما في إخراجها من ورطتها.