الفيلسوف اليوناني أرسطو.(أرشيف)
الفيلسوف اليوناني أرسطو.(أرشيف)
الجمعة 8 ديسمبر 2017 / 19:40

متلازمة العين الغامزة

هذا بالضبط هو العمى الذي تهدد عقد الذنب بنشره عبر الزمن، فإما نتفطّن له اليوم في تلعثمنا وخجلنا وابتساماتنا الصفراء، وإما يحكم علينا بالظلام لاحقاً

جرب يوماً، وأنت تجلس على طاولة من الأصدقاء، أن تهاجم "الآخرين"، أولئك الذين يقطنون بيننا، ويتعايشون معنا، ويشاركوننا التربة والهواء والمصير.

قل –مثلاً- أن مذاهبهم تعجّ بالخرافات بقدر مذاهبنا، أو –مثلاً- أن ثقافتهم السائدة مادية مدمرة، أو أن ممثليهم السياسيين فاسدون وعابثون. أو إذا كنت غربياً أشقر الشعر، فقل أنهم –وفي هذه الحالة، سيكون الآخرون ممن يحملون سحنة قمحية مثلي- يضطهدون المرأة والطفل.

انتبه! فستلحظ عيناً تغمز لك بحركة شبه روبوتية من إحدى زوايا الطاولة، فيما يعض صاحبها بأسنانه الحادة على "براطمه".

اعذرها، فهي–عافاها الله- مصابة بمتلازمة الشعور بالذنب تجاه هؤلاء الآخرين. ولأسباب مفهومة، طبعاً. فهم قد سُملت أعينهم وفُقأت، بينما هي تنتمي إلى الأغلبية المتنعمة التي وُضع الخيار البارد فوق أجفانها المقفلة.

سيزعجك في مرحلة ما أنّ هذه العين لم تعد قادرة على أن تبصر الواقع بالإنصاف الذي تنادي به. ولكن لا تتصور بأن "عماها" سيقتصر على حاضرنا.

تقول الباحثة الأمريكية ماري ليفكوويتز بأنها دخلت محاضرة في جامعة ويليزلي لخبير مرموق في المصريات، فوجدته يتبنى نظرية المركزية الإفريقية، والتي تنص باختصار على أن الحضارات التي خرجت من القارة السوداء هي من مهدت في الواقع لكل فكر وتطوّر تكنولوجي.

ولا أرى ضيراً في هذه النظرية، فإحدى أهدافها هو إنصاف الأفارقة المهمشين، ورد اعتبارهم الضائع، بعد أن جعل الأوروبيون أنفسهم محوراً للكون.
ولكنه –لفجيعتها- راح يطلق مزاعمه كالقصف العشوائي، وبدون أدلة. ومنها أن اليوناني أرسطو إنما قام بالسطو على مكتبة الإسكندرية، ونسب إبداعاته إلى نفسه، في ممارسة روتينية لهواية الرجل الأبيض المفضلة.

ولم يكن من ليفكوويتز إلا أن اعترضت على المحاضر، مبرهنة أن المكتبة لم تكن قد بُنيت أصلاً أثناء حياة أرسطو-!-، ناهيك عن أن يكون قد زار مصر.

وليس من المفاجئ على الإطلاق أنها تعرضت للاتهامات بالعنصرية، وبكونها ضحية لغسيل الدماغ الممنهج من قبل المؤرخين البيض.
بل ما صدمني شخصياً هو أنها حين تقدّمت بشكواها إلى إدارة الجامعة دفاعاً عن التاريخ، حشر أحد المسؤولين أمانته العلمية في الزبالة وأجابها، "بصراحة؟ لا أكترث".

هذا بالضبط هو العمى الذي تهدد عقد الذنب بنشره عبر الزمن، فإما نتفطّن له اليوم في تلعثمنا وخجلنا وابتساماتنا الصفراء، وإما يحكم علينا بالظلام لاحقاً.

وأبسط مثال هو أنه مع وقت صدور المناهج لأحفادنا، وارتيادهم للمحاضرات، قد نكون قد قررنا تصوير الأقلية الإيزيدية كالملائكة بسبب ما يقاسونه الآن على يد شياطين داعش، حتى أننا سنجعلهم مؤلفي الميثاق العالمي لحقوق الإنسان. فتخيّل ألا "يكترث" أحد حينها بـداعشيتهم حين رجموا إحدى فتياتهم في 2007 بسبب تحوّلها إلى الإسلام، ويصبح من يذكرها عنصرياً مغسول الدماغ؟

عموماً، تنبّه إلى من يغمز إليك من طرف الطاولة، فقد يعفيك من فاتورة اتهامات باهظة.