جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار (أرشيف)
جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار (أرشيف)
الأربعاء 20 ديسمبر 2017 / 20:25

سارتر وسيمون

اسمي جان بول سارتر، فيلسوف، وروائي، ومسرحي، وسياسي، صدَّعتُ القرن العشرين بوجودية شعبوية، قياساً بوجودية مارتن هيدغر الأرستقراطية النائية. كنتُ عتالاً في المصنع الوجودي بينما كان هيدغر صاحب المصنع. وُلدتُ في 1905، وأنا الآن في عام 1975، قبل موتي بخمس سنوات، في عام 1980. من الصعب القول إن صحتي جيدة، لكن لا يمكنني الزعم بأن صحتي سيئة.

يزعجني كبار السن. لا أحب الناس الذين هم في سني. كل الذين أعرفهم، أصغر مني بكثير، أتواصل معهم بشكل أفضل، فلهم الاحتياجات نفسها، ومساحات الجهل نفسها، ومساحات المعرفة أيضاً

ساقاي تؤلماني عند المشي أكثر من كيلومتر. الأسوأ هو ذلك النزيف الذي حدث في عيني اليسرى، وهي العين التي أرى بها، فقد فقدتُ الرؤية بالعين اليمنى، بشكل تام، وأنا في الثالثة من عمري. ما زلتُ أستطيع الرؤية بشكل ضبابي، أرى الضوء والألوان، لكن لا يمكنني رؤية الأشياء والأشخاص، بشكل واضح، وبالتالي لا أستطيع القراءة أو الكتابة.

يمكنني الكتابة بمعنى أن أُشكِّل الكلمات بيدي، لكنني لا أستطيع رؤية ما أكتبه. في القراءة أرى الأسطر والمسافات التي بينها دون تمييز للكلمات. في الأحلام أرى الأشياء والأشخاص بشكل طبيعي، وبعد اليقظة يبقى انطباع الرؤية للحظات، مع فقدان لتحديد اتجاهات اليسار واليمين في الغرفة التي أنام فيها، ثم تعود ذاكرة الواقع، وتعود الرؤية الضبابية.

إن عملي ككاتب قد انتهى. كما أن الشباب يقرؤون الآن ميشيل فوكو وجيل دولوز، أكثر فأكثر. لم تعد كتابات مثل "الوجود والعدم"، و"سجناء الطونا"، و"الكلمات"، و"الوجودية نزعة إنسانية"، تحظى بالاهتمام السابق.

منذ سنتين كنتُ أسير مع سيمون دي بوفوار في أحد الشوارع. أبحث عن فتاة أعطيتها موعداً على المقهى. كنتُ في الثامنة والستين، وكانت سيمون في الخامسة والستين. لم يكن هناك موعد، ولم تكن هناك فتاة. في الأربعينيات كتبتْ سيمون رواية "المدعوة"، وكان موضوع الرواية، فتاة تدخل حياة سارتر وسيمون. شعرتْ سيمون بالغيرة على سارتر، فكتبتْ الرواية.
 لكن سيمون الآن 65 سنة، وسارتر 68 سنة. حين أعلمتها بموعد الفتاة المُتَوَهَّمَة، لم تقل شيئاً، وسارتْ معي بصمت. هل كانت تتوقع عدم وجود الفتاة؟ لا أشعر بالخجل من نقائص الشيخوخة أمام سيمون إلا أنني لم أسألها إذا كانت تتوقع أن يكون موعد الفتاة، محض هلوسة، فلماذا بقيتْ صامتة طيِّعَة، وكأنها تثأر لنفسها من انشغالي عنها، بفتيات معجبات حقيقيات، كن قبل ثلاثين أو أربعين سنة.

أعترف أنني وقعتُ في تناقض كبير فيما يتعلق بأسلوب الكتابة. قلتُ مرة إن الأسلوب بالنسبة لي لا ينفي البساطة، لكنه بالدرجة الأولى، قول ثلاثة أو أربعة أشياء في جملة واحدة. فإذا لم يستطع الكاتب إعطاء هذا التعدد في طبقات المعنى، فالأمر لا يستحق عناء الكتابة. ومع ذلك عندما كتبتُ "عبيط العائلة" عن فلوبير، دافعتُ عن عدم أسلوبية الكتاب، بأنني أردته هكذا، لأن فلوبير صاحب أسلوب في الكتابة، فمن الجنون أن أكتب بطريقة أسلوبية عن أشهر كاتبٍ، بحث عن الأسلوب، فالشكل البسيط الذي يسير به كتاب "عبيط العائلة"، هو الشكل الأفضل.

الحقيقة أقولها الآن وأنا في السبعين: كنتُ أتمنى أن أمتلك جملة مثل جملة بروست، وهي الجملة التي كان بروست يقول فيها فعلياً، ثلاثة أو أربعة أشياء، دفعة واحدة. الحقيقة أن الأسلوب لم يتعد عندي حد التمني، أمّا لحظة الكتابة الفعلية، فهي لحظة سهلة، سلسة، معنية بتسويد أكبر قدْرٍ من الصفحات البيضاء، معنية بالكم وليس بالكيف. تكون الكتابة الفعلية دائماً عندي، مثل قطار ثقيل، غليظ العجلات، يقطع المسافة دون تردد. في النهاية أنا كاتب بسيط، لا يملك أسلوباً في الكتابة، ولا يستطيع قول ثلاثة أو أربعة أشياء في جملة واحدة.

يزعجني كبار السن. لا أحب الناس الذين هم في سني. كل الذين أعرفهم، أصغر مني بكثير، أتواصل معهم بشكل أفضل، فلهم الاحتياجات نفسها، ومساحات الجهل نفسها، ومساحات المعرفة أيضاً. معظم مَنْ أراهم الآن في سن الثلاثين، أو دون ذلك. أنزعج بشدة حين أقابل عجائز، عرفتهم وهم صغار السن. أستثني من كبار السن، سيمون دي بوفوار فقط.

لم أعد آمل، وأنا في السبعين، أن أكتب رواية أو عملاً فلسفياً، في السنوات العشر الباقية لي، على افتراض أنها عشر سنوات. الكل يعرف طبيعة السنوات بين السبعين والثمانين.