سترة عليها صورة غيفارا (أرشيف)
سترة عليها صورة غيفارا (أرشيف)
الخميس 21 ديسمبر 2017 / 19:47

الأزياءُ وخطاباتها الثقافيّةُ الكونيّةُ المغايرةُ!

كان الناقدُ الفرنسي البنيوي رولان بارت شغوفًا بقضيةِ الأزياء من الناحيةِ السيميائيةِ، أي بوصفها نظامًا دالاً على العلاماتِ، ولذلكَ أصدرَ كتابًا مهمًا عن الأزياء ينتظمُ وَفق رؤيته النقديّة التي يصدرُ عنها.

نحن في الوقت الحاضر بحاجةٍ إلى مقاربةٍ ثقافيّةٍ لدراسةِ تلقي الأزياء العالميّةِ في مجتمعاتنا العربيّةِ ووفق أيِّ نسقٍ يتمُّ هذا التلقي، خاصةً في ظلِّ السطوةِ الكبيرةِ لوسائطِ التواصلِ الاجتماعيّة

والأزياءُ عند بارت ليست مجردَ ألبسةٍ فقط وإنَّما هي أنساقٌ كامنةٌ وظاهرةٌ مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بالثقافةِ التي تمثلها، كما تحتوي في الآنِ نفسه على خطاباتٍ في غايةِ الخطورة. ولذلك فالنصُ عند هذا الناقدِ البنيويّ ليسَ فقط مجردَ نصوصٍ فكريّةٍ أو ثقافيّةٍ؛ السردُ عند بارت سردٌ كونيّ شموليّ تنتظمُ فيه الأزياءُ بوصفها علاماتٍ كونيّةً كبرى دالةً ومؤثِّرةً.

تُعدُّ الباحثةُ الأمريكيّةُ ي.ك.ستيلمان واحدةً من أبرزِ الدارسين لتواريخِ الأزياءِ في العالمِ من الناحيةِ الإثنوغرافيّة. ولستيلمان كتابٌ مهمٌ جدًا اسمه "تاريخ الأزياء العربيّة منذ فجرِ الإسلامِ إلى العصرِ الحديث"، وقد تُرجِمَ إلى العربيّةِ من خلالِ مشروعِ "كلمة" للترجمةِ الصادرِ عن هيئةِ أبوظبي للثقافةِ والتراث.

 كانت ستيلمان معنيةً في هذا الكتابِ بالمقاربةِ الوصفيّةِ للأزياء والألبسةِ العربيّةِ لرصد تحوّلِ أنماطِ الألبسةِ العربيّةِ وأشكالِها وأنواعِها عبر الحقبِ التاريخيّةِ المختلفةِ في إطارِ المقوماتِ الجغرافيّةِ لكلِّ منطقةٍ من مناطقِ العالمِ العربيّ والإسلاميّ.

وكما بيّنت الباحثة كانت تهدفُ إلى دراسةِ اللباسِ العربيِّ في مختلفِ السياقاتِ وعلى المستوياتِ والصعدِ كافةً سواءً من المنظورِ الاجتماعيّ أو الدينيّ أو الجماليّ أو الاقتصاديّ أو السياسيّ وفقًا لمعاييرِ كلِّ عصرٍ على حدةٍ في محاولةٍ منها لتأسيسِ منظومةِ ألبسةٍ تمثلُ روحَ المجتمعِ العربيّ الإسلاميّ. وبسبب يهوديتها كانت ستيلمان معنيةً أيضًا بالتنقيبِ في وثائقِ الجينيزا Geniza التي عُثرَ عليها في القاهرة في الفترةِ من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر الميلادي على ملابس"الغيار" أيّ غيرِ المسلمين، وكانت معنيةً كذلك بالتنقيبِ في أزياءِ الأقلياتِ الدينية في دارِ الإسلامِ عبر العصورِ المختلفة. وبالتالي تشكّلُ دراساتها مصدرًا أثنوغرافيًا على درجةٍ عاليةٍ من الأهميةِ خاصةً أنها استنطقتْ عشراتِ المصادرِ التاريخيّة ومذكراتِ الرحّالةِ الأوروبيين ووثائقهم للكتابةِ عن الأزياء العربيّة.

وإذا كانت ستيلمان قد قامت بهذه الدراسةِ المهمةِ فإنّنا في الوقت الحاضر بحاجةٍ إلى مقاربةٍ ثقافيّةٍ لدراسةِ تلقي الأزياء العالميّةِ في مجتمعاتنا العربيّةِ ووفق أيِّ نسقٍ يتمُّ هذا التلقي، خاصةً في ظلِّ السطوةِ الكبيرةِ لوسائطِ التواصلِ الاجتماعيّة. ومن الأمورِ التي لفتت انتباهي انتشارُ بعضِ الألبسةِ التي عليها صورُ بعضِ القادة الماركسيين الثوريين بين مراهقي العالمِ ومراهقي الوطن العربيّ. وتأتي في المقدمةِ صورُ الثائرِ الكوبيِّ تشي غيفارا رفيق فيدل كاسترو في النضالِ ضد "الأمميّة". وتأتي هذه الصورُ مذيّلةً بعباراتٍ مقتبسةٍ من أقواله. أن يصبحَ غيفارا شخصيةً ملهمةً ومؤثِّرةً لهؤلاءِ وأن تتصدرَ كلماته وصوره عن الحريةِ والصراعِ ضد الإمبرياليةِ وسائطَ التواصلِ الاجتماعيّة لشبابٍ غضِّ السن وحتّى بعضُ الكبارِ ممن لايتوفرون على الوعيِّ الثقافيِّ ويتشدقون بالمعرفة!!! وأجزمُ أنَّ هؤلاءِ جميعًا لايعرفون عن غيفارا سوى القليلِ الهش وربَّما لم يقرأوا حتى مذكراته الأصليّة ولم يقرأوا كتابَ "رأس المال" لكارل ماركس، ولا يعرفون بالتالي ماذا تعني الماركسيّة أصلاً ولا تطبيقاتها وتأويلاتها السياسيّة!!! واكتفوا بمجردِ جملٍ منتشرةٍ بقوةٍ رهيبةٍ في وسائط التواصل الاجتماعي!!! الكل فجأة أصبح ثائراً وينادي بالحرية دون أن يفهم سياقاتها!!! ومن العجيبِ أن تروّج مثل تلكَ الكتابات وبقوةٍ في الفترة التي أعقبت الربيع العربيّ الذي هو في حقيقته خريفًا قبيحًا جدًا!

مع انتشارِ المد الشيوعيّ في الوطن العربيَّ وبروز الأحزاب اليسارية الماركسية منذُ خمسينيات القرن الماضي كنا نفهم ماذا تعني تلك الأيقونات الماركسيّة الكبرى لشباب عربيٍّ تملؤه القوميةُ والرغبةُ في التحرّرِ من الاستعمارِ الأجنبيّ، ولكن الآن هل أصبح غيفارا صرعةَ موضة وأزياء عند الشباب العربيّ الذين لا يدرك سوى القليلِ منهم طبيعةّ المرحلةِ التاريخيّة الإشكاليّة وطبيعة الظرف السياسيّ الذي أفرز شخصية مثل غيفارا ؟! هل هي هذه المرحلةُ العمريةُ الحسّاسةُ التي تهفو إلى البطلِ المثاليّ الملهم؟! لاشكَّ أنَّ ثمَّة ترويجاً قصديّاً من جهاتٍ ما وثمَّة تلقٍ ساذج يعمُّ عددًا كبيرًا من المتلقين الذين لم يقرأوا التاريخَ ولايعرفون إشكالياته الخطيرة والمتغيرة. فقبل أن نرتدي شالاً عليه صورةُ فريدا كاهلو أو نعتمر قبعةً عليها صورة غيفارا يجبُ أن ندركَ جيدًا أننا نرتدي رسائلَ ثقافيةً في غايةِ الخطورةِ في عصرٍ يتمُّ فيه التلاعبُ المتقن بالصورة. فهل نكون دون أن ندري ضحايا ثقافيين لمثلِ هذا الترويجِ القصديّ الخطير!!! عن طريق الوعي الثقافيّ فقط نستطيع التخلصَ من هذا التلاعب، وأن نكون نسيجًا حقيقيًا كونيًا يؤمنُ بجوهره الأصيلِ وينفتحُ في الوقت ذاته على الآخرِ بوعيٍ دون جهل ودون استلابٍ ثقافيّ!