الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي(أرشيف)
الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي(أرشيف)
الأربعاء 3 يناير 2018 / 20:09

مرض دوستويفسكي

كانت المرة الأولى التي أرى فيها حالة صرع. كنتُ في العشرين من عمري. وكان الصرع مرضاً يأخذ انتباهي بسبب بعض القراءات في روايات دوستويفسكي، وبسبب حالة مرضية، كانت تنتابني من سن السابعة إلى سن العاشرة، ولم تكن مرضاً بالمعنى الصريح، لكنها كانت أشبه بتشنج خفيف يصاحبه احمرار الوجه، واختناق في التنفس، وغياب لحظي عن الوعي.

لطالما وجدتُ صعوبة في أخذ مقطع من روايات دوستويفسكي، لاستخدامه في تناص أو كقطعة حطب لتأجيج نار الكتابة. لا توجد عند دوستويفسكي فقرة مُحْكَمة. يوجد فقط سوبر دراما أو دراما كارثية

كان الوصف الشعبي لتلك الحالة هي كلمة "الغَزْلَنَة"، ويبدو أنها تتعلق بحدة المزاج العصبي، ونقص شديد في مُجَابَهَة الواقع. كانت المكتبة العامة تفتح بابها في التاسعة صباحاً. وكنتُ في العادة أذهب عند الثامنة والنصف. أستمتع بوحشة المكان. في مدخل المكتبة تندة خشبية، ومصطبتان مرتفعتان بمقدار متر، عن سطح الأرض، بينهما أربع درجات عريضة من السلالم الرخامية، تنتهي بباب المكتبة.

على إحدى المصطبتين، جلس رجل في الخمسين يحمل كتاباً، عرفتُ من طريقة تجليده، أنه من كتب المكتبة. موعد إعادة استعارة. جلستُ على المصطبة الأخرى المجاورة. أشعلتُ سيجارة. فجأة سقط الرجل على التراب من ارتفاع جلسته.

صوت السقطة كأنها من ارتفاع طابق. أخذتُ المترين بيني وبينه في خطوة. بصعوبة رفعتُ وجهه عن التراب. كان خواره عميقاً بعيداً عن الصوت الإنساني، وكأنه حيوان يُذبح. وضعتُ رأسه على فخذي. كانت عيناه جاحظتين ممسوحتين بالبياض.

كانت قاعدة النافذة قريبة من أرض القاعة، وكان ضوء النهار ينكسر على رفوف الكتب، وحظيتْ مجلدات دوستويفسكي الأربعة، بقطع مكافئ من الضوء. دخل جاسر، ابن واحدة من موظفات المكتبة، إلى القاعة. جاسر في حوالي العشرين من عمره، لا تبدو عليه الإعاقة الذهنية من النظرة الأولى. يطوف في غرف المكتبة الخمس بهدوء شديد. يقضي ساعة في كل غرفة. يحتمي برفوف الكتب من نظرات الفضول، إن وُجِدَتْ. يلمس عناوين الكعوب المّذهَّبة. يسحب كتاباً، وينظر في صفحاته أكثر من خمس دقائق، ويكرر الفعل نفسه في غرف المكتبة الخمس. لم أره يجلس يوماً بكتاب إلى ترابيزة. تنادي والدته عليه، وكأنها تطمئن عليه من حين لآخر. يترك جاسر رفوف الكتب، ويذهب إلى والدته دون رد ثم يعود إلى طوافه، وبين النداء والعودة، تتجلى قليلاً إعاقة جاسر الذهنية.

لطالما وجدتُ صعوبة في أخذ مقطع من روايات دوستويفسكي، لاستخدامه في تناص أو كقطعة حطب لتأجيج نار الكتابة. لا توجد عند دوستويفسكي فقرة مُحْكَمة. يوجد فقط سوبر دراما أو دراما كارثية.

أتخيل دوستويفسكي يعتذر للقارئ عن الخمسمائة صفحة الأولى من روايته، ويعده بأن يجد في الخمسمائة الثانية ما يجعله يغفر عثرات وكوارث الخمسمائة الأولى ثم يعتذر عن آلاف الصفحات، ليقول عن آخر رواياته "الإخوة كارامازوف": أخيراً وقعتُ على موضوع في مستواي، وكأنه على استعداد لنفي كل ما سبق من أعمال، "الشياطين" و"الجريمة والعقاب" و"الأبله"، ذات الجزأين، ليفتتح وهو في التاسعة والخمسين من عمره، سلسلة روايات ثلاثية الأجزاء، تبدأ ب"الإخوة كارامازوف". على العموم، وأنا أقرأ الآن للمرة الرابعة رواية "الأبله"، والقراءات الثلاث الكاملة، موزعة على خمسة عشر عاماً، وإذا أردتُ حساب القراءات الناقصة لرواية "الأبله" في نفس الفترة الزمنية، لكانت المرة الرابعة، هي السابعة أو الثامنة، أغفر له انفعال أبطاله المُبالَغ فيه واللامعقول، وأفكر أن مسيحانية دوستويفسكي الأرثوذكسية، كانت تطلب منا الغفران في غير موضعه.

في خطاب من دوستويفسكي لأخيه: أعرف جيداً أنني أكتب بطريقة أسوأ من طريقة تورجنيف، ولكن ليس أسوأ بكثير، ولدي أمل قوي أنني سأتوصل إلى كتابة بشكل جيد مثله، فلماذا إذن على الرغم من بؤسي والضائقة التي أعاني منها، ينبغي عليّ أن أقبل 100 روبل على الصفحة بينما يحصل تورجنيف، الذي يملك مزارع يعمل فيها 2000 فلاح، على 400 روبل. إن فقري يرغمني على التسرع في الكتابة للحصول على النقود، وبالتالي فإن هذه الطريقة تخرب وتفسد على الدوام أعمالي.

يسافر فيدور دوستويفسكي للاستشفاء من مرضه العصبي بصحبة زوجته الثانية المخلصة أنا غريغوريفنا التي ضربتْ قبل السفر على الآلة الكاتبة وقائع رواية "المقامر"، من فمه مُباشرةً.

يرهن دوستويفسكي خاتم زوجته وقرطيها، ويلعب بثمنهما على الروليت. يخسر باصفرار وجه. يعود إليها راكعاً على قدميه طالباً الغفران. نظرة ثقيلة البله في عينيه، إدانة للنفس، لكنها تدين الجميع أيضاً، نظرة كريهة مُظلمة. تغفر له أنا غريغوريفنا، وتبعث لوالدتها طلباً للمال.

 يذهب الزوج إلى الروليت، ويكسب بالمال الجديد. يفك رهن الخاتم والقرطين. في اليوم التالي يأخذهما إلى الرهن، ويخسر مرة ثانية. يستجدي سلفة من تورجنيف، وهو لا يطيقه، عبر رسالة ذليلة، يقدر عليها فقط صاحب "مُذلون مُهانون". يستمتع تورجنيف، وهو باشا وجنتل مان ونيتشوي، لا يُفوِّت على عبدٍ، رغبته في الانسحاق أمام سيده. يبعث له في النهاية من طرطوفة مناخيره، نصف ما طلبه فيدور دوستويفسكي الذي يبلع الإهانة على معدة خاوية. يأخذ المال ويذهب للروليت. يخسر للمرة الثالثة. يعود ضائعاً إلى زوجته. تنتابه نوبة صرع. تستطيع أنّا في اللحظة الأخيرة، إزاحة حافة الترابيزة من مرمى سقوط رأسه. يخرج منه صوت بعيد القرار. تصف أنّا جوريجوريفنا هذا الصوت في مذكراتها، وتتركه نهباً بين صوتين، صوت إنسان، وصوت حيوان.